«مارشال»، هكذا ذكّر أوباما في خطابه الأخير بالجنرال جورج مارشال، قائد أركان الجيش الأميركي في الحرب العالمية الثانية، هو نفسه وبعدما أصبح وزير الخارجية (١٩٤٧)، صاحب مشروع الدعم الاقتصادي لإعادة إعمار أوروبا. هدية أوباما لم تكن مفاجأة كاملة. قال وزير المال المصري، سمير رضوان، قبل الخطاب بساعات، إنه أُبلغ رسمياً بأن الرئيس الأميركي باراك أوباما سيعلن في خطابه حزمة مساعدات مالية لمصر، قيمتها 2 مليار دولار.
أوباما أعلن في الخطاب إسقاط جزء من الديون المستحقة على مصر بقيمة مليار دولار، حتى لا تكون مصر التي تمرّ بعملية التحول رهينة لديون في الماضي، وكذلك تقديم ضمانات اقتراض بمليار دولار. أعلن أوباما أيضاً أن إدارته تعمل مع الكونغرس على تأسيس صندوق للاستثمار في مصر وتونس، على غرار ما حدث في أوروبا الشرقية، وإطلاق مبادرة شراكة اقتصادية شاملة في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. الوزير المصري وصلته المعلومات عبر قنوات رسمية بأن الرئيس الأميركي سيعلن في خطابه عن الشرق الأوسط حزمة من المساعدات المالية الإضافية لمصر تتضمن دعم الموازنة العامة بقيمة مليار دولار، ومليار دولار آخر يخصص للإنفاق على عدد من المشروعات، أهمها تمويل قروض المشروعات الصغيرة والمتوسطة وبرنامج تشغيل الشباب وبرامج مكافحة الفقر. حزمة أوباما اعتمدت على فكرة وردت في الخطاب عن رغبة أميركا في العمل على توسيع النمو الاقتصادي، وعلى التجارة والاستثمار، لا على المساعدات فقط.
الدعم الاقتصادي ليس مجرد خطوات في تمتين العلاقات الأميركية مع الأنظمة الجديدة، لكنه «مشروع» بمعنى قد يختلف عن «مارشال» ما بعد الحرب العالمية، في التفاصيل أو طبيعة العلاقات أو شبكة مصالح أميركا التي أرادت نسج إمبراطوريتها بتوحيد الإمبراطوريات القديمة الجريحة، والأهم دعم بورجوازيات مهزومة في مواجهة حركات ثورية تسير بالتحرر من النظام الرأسمالي إلى آخر مداه.
«مارشال» أوباما سيبدأ بمصر وتونس، وسيطلب الرئيس الأميركي خطة من صندوق النقد الدولي لتحديث اقتصاد البلدين، وسيحثّ دولاً أخرى على تقديم المساعدة للدولتين. أوباما يدقّ على أبواب قلقة أصلاً، وفي لحظة تجولت فيها أشباح الكارثة الاقتصادية في شوارع مصر، على سبيل المثال، بعد تسريبات مرعوبة من «الإفلاس العمومي» و«الجوع» واعتبار أن «هذا ما جنته الثورة» على المصريين.
مشروع أوباما ظهر في لحظة يشتعل فيها استقطاب «استمرار» الثورة أو «استقرار» البلد، وتسريبات عن جهات عليا في صحف تحدثت عن «نفاد المخزون النقدي خلال ٦ أشهر»، وهو ما أصاب جمهوراً واسعاً بالرعب، وخصوصاً أن التسريبة ربطت بين النفاد واستمرار الاعتصامات.
الخلط هنا بين «المالي» و«الاقتصادي»، بدا بالنسبة إلى بعض الخبراء الاقتصاديين محاولة صناع «فزاعة» تستهدف المحيط الاجتماعي للثورة. والأرقام المتسربة تأتي كمرحلة تالية بعد حرب نفسية انتشر فيها الكلام على الجوع القريب من البيوت المصرية.
الحرب نفسية وتلعب على هواجس ما بعد التغيير وافتقاد الاقتصاد المصري مركزه الرئيسي الذي كان يقوم على الرئاسة وحاشيتها المختارة وشبكات أصغر ترتبط بحركة أموالها وتثق بحماية مؤسسة الحكم مباشرة لهذه الحركة. هذه الحركة توقفت الآن بفعل الخوف من المستقبل. وضياع مركزها بإبعاد الرئيس، وسجن «العصابة»، إضافة الى ضعف حركة السياحة، أحد أهم مصادر الدخل المصري في سنوات مبارك، وهو ما أدى الى تضخم العجز في الموازنة بنسبة ١٠ في المئة وارتفاع نسبة التضخم الى ١٢ في المئة، وهي أرقام صادمة لمن لا يعرف تاريخ مبارك الاقتصادي، حيث وصلت نسبة العجز في الثمانينيات الى ٢٠ في المئة، كما لم تكن نسبة التضخم أفضل كثيراً في سنوات ازدهار مبارك.
«مارشال» الجديد يهدف الى مساعدة التركيبة الجديدة للحكم في استعادة عافية اقتصادية، بعد تردد الحلفاء الإقليميين لمبارك (الخليج وفي مقدمته السعودية والإمارات) في دعم النظام القديم، أوباما يربط مصر من جديد بشبكة، لا تضطر معها الى البحث عن حلفاء جدد (وخاصة إيران أو أبعد من ذلك). «مشروع» أوباما يحاول استعادة جاذبية ضائعة، أملاً في عدم انفلات الثورات لتدور في مدارات بعيده عن الشبكة الأميركية، وخصوصاً أنه سياسياً تعتبر العلاقة الحميمة مع أميركا، إحدى خطايا الأنظمة المخلوعة، كما أن مبارك وغيره من رموز الديكتاتورية، اعتبروا من وجهة نظر الشعوب، وكلاء للإدارة الأميركية، لا يعملون خارج سيطرتها.
هل يدخل «مارشال» الجديد من الفزاعة نفسها التي اخترعتها بقايا الأجهزة المتسلطة لتقطع الطريق على الثورة؟، أم أنها إعادة المغناطيس الأميركي ليستقطب الجمهوريات الجديدة الى مداره؟ في تظاهرات أمس، كان رفض العفو عن مبارك وقانون المصالحة مع «لصوص الثروات» واضح، في إطار «إنقاذ الثورة»، بعدما قادت فزاعة الجوع والإفلاس الى ترويج أفكار عن العفو في مقابل ردّ الأموال، وهو ما يخلق استقطاباً جديداً حول العلاقة بين الاقتصاد والثورة.