نجحت الثورة اليمنية، بعد أربعة أشهر من انطلاقتها، في استنفاد الشرعية السياسية والشعبية للرئيس اليمني علي عبد الله صالح من دون أن تتمكن من دفعه إلى التنحي عن السلطة، بعدما نجح في إجهاض مختلف المبادرات السياسية، مستغلاً انقسام المشهد السياسي بين ثلاثة أطراف، لعل الشباب المرابطين في ساحات الاعتصام أكثرهم تماسكاً وتصميماً في مواجهة حزب المؤتمر الشعبي العام الحاكم، والمعارضة ممثلةً بأحزب اللقاء المشترك.
فالمحتجون أدركوا منذ لحظة إعلان البرلمان اليمني مبادرته لتأبيد حكم صالح في مطلع كانون الثاني، عندما كانت المنطقة العربية تضجّ بثورتي مصر وتونس، عدم اكتراث النظام بما يجري من حوله ومحدودية قدرة المعارضة على التأثير في مجريات الأحداث، لذلك قرروا الخروج بمفردهم إلى الشارع، مرحّبين في الوقت نفسه بكل من يختار الانضمام إليهم. ولم يكد شهر كانون الثاني يمضي حتى كانت التظاهرات قد تحولت إلى عنوان يومي فرض إيقاعه على العاصمة اليمنية صنعاء وعدد آخر من المحافظات، في مقدمها تعز وعدن، فكانت المعارضة تشارك في المسيرات الاحتجاجية حيناً وتنكفئ حيناً آخر، وفقاً لما تقتضيه مناوراتها السياسية في مواجهة الحزب الحاكم، على غرار ما حدث في الثالث من شباط. كذلك فرضت التظاهرات اليومية إيقاعها على الرئيس اليمني، موقظةً إياه من اطمئنانه إلى عدم قدرة أحد ما على منافسته هو ونجله أحمد علي، على كرسي الحكم، ليضطر إلى الخروج على الملأ معلناً عدم رغبته في الترشح لأي ولاية رئاسية جديدة، ومتعهداً بعدم توريث حكمه.
ومنذ خطاب صالح في الثاني من شباط، توالت انتصارات المحتجين، بعدما نجحوا في تخطي العديد من العراقيل التي كان النظام يعوّل عليها لإحباط تحركهم، وهدّموا العديد من أعمدة حكم النظام. فمع استمرار تصاعد وتيرة التظاهرات، رغم لجوء النظام إلى عمليات قمع وحشي غير مسبوقة، استشعر العديد من المحيطين بالرئيس وأسرته مدى إفلاسه بعدما انتقل الى تصفية شعبه، فبدأوا يقفزون من سفينته أملاً في النجاة بأقل قدر ممكن من الخسائر، فيما واصل الرئيس اليمني إبداء استعداده لتقديم المزيد من التنازلات من دون أن يقدم على أي منها، معتمداً مبدأ المراوغة الذي أتقنه طوال سنوات حكمه.
وعلى وقع فشل الاعتداءات اليومية لبلاطجة الحزب الحاكم وعناصر الأمن في إجبار المحتجين على التراجع، ولا سيما بعدما حوّلوا تظاهراتهم إلى اعتصام، لجأ الرئيس اليمني إلى طلب وساطة هيئة علماء اليمن، قبل أن يعمد إلى إفشال خريطة الطريق التي أعدّتها للخروج من الأزمة، ويعلن بعدها بأيام رغبته في تعديل الدستور، والتحول إلى النظام البرلماني.
وفيما كان المعتصمون والمعارضة مجمعين على أن عروض الرئيس قد تجاوزها الواقع، لم يتأخر انتقام الرئيس اليمني، فأوعز إلى قواته بالهجوم على المعتصمين في ساحة التغيير، ما أدى إلى سقوط 52 قتيلاً لتدشن مرحلة جديدة من الاحتجاجات.
وبينما كانت الحشود تشيّع قتلى مجزرة يوم الجمعة الدامي في 18 آذار، كانت أعمدة النظام قد اهتزت على نحو غير مسبوق بإعلان قائد المنطقة العسكرية الشمالية علي محسن الأحمر، انحيازه لمطالب المحتجين، مستدرجاً معه عدداً من قادة الجيش وعناصره. كذلك كان إعلان شيخ قبائل حاشد، صادق عبد الله الأحمر، انضمامه إلى المطالبين بإسقاط صالح بعدما سبقه في ذلك كبار مشايخ العائلة التي لطالما تحالف معها صالح، ضربة قاصمة له دفعته من جديد إلى تقديم مبادرة إضافية يعلن خلالها استعداده لمغادرة السلطة في 2012، مقترحاً إجراء انتخابات نيابية مبكرة نهاية العام الجاري.
ومع اقتراب شهر آذار من نهايته، كانت الولايات المتحدة قد دخلت على خط الأزمة بقوة، وتمكنت من التوصل إلى اتفاق يقضي بانتقال السلطة من خلال تسليم الحكم إلى نائب الرئيس، من دون أن تنجح في الوصول به إلى مرحلة التطبيق بعدما كرر الرئيس اليمني سيناريو إجهاض الاتفاق في آخر لحظة.
ومنذ ذلك الحين، دخلت البلاد في حالة من الجمود لا تخرقها سوى التظاهرات والتظاهرات المضادة، وخصوصاً يوم الجمعة من كل أسبوع بسبب انقسام المحتجين، على ضرورة تصعيد المواجهة ضد الرئيس اليمني. وتأسيساً على ذلك، نجح الرئيس، أكثر من مرة في استعادة زمام المبادرة بمسارعته الدائمة إلى إعلان موافقته الشكلية على التفاوض مع المعارضة لإيجاد حل سلمي للأزمة، مدركاً مدى استعداد حلفائه الدوليين والإقليميين لمساندة خياره، في ظل توقهم إلى ضمان أكبر قدر ممكن من الاستقرار، في ظل المشاكل المترامية الأطراف التي تعانيها البلاد.
كذلك كان صالح يعوّل على أن أحداً لن يجرؤ على إزاحته عن كرسي حكمه بالقوة العسكرية نظراً الى حساسية الوضع اليمني من جهة، ولما أضافته التطورات الإقليمية من جهة ثانية، بعدما أثبت التدخل العسكري في ليبيا لإطاحة العقيد معمر القذافي فشله وتكلفته السياسية المرتفعة.
سبب إضافي منح الرئيس اليمني المزيد من الثقة في إمكان نجاحه في الالتفاف على حركة الاحتجاجات، يتمثل في ضعف المعارضة اليمنية. فالمعارضة المتهمة بأنها لم تستطع أن ترتقي في موقفها إلى مستوى موقف الشارع، كان واضحاً أنها غير موحدة ولم تنجح في إيجاد استراتيجية واضحة للتعامل مع الرئيس اليمني، بعدما انتقلت فجأة من الهامش لتجد نفسها في موقع ندّي مع الرئيس اليمني لم يسبق أن توفّر لها يوماً. هذا التخبط، وحده الحزب اليمني للإصلاح المعروف بعلاقته الوثيقة مع السعودية من خلال القيادي الأبرز فيه، الشيخ حميد الأحمر، نجح في استغلاله، أملاً في استثماره للوصول إلى السلطة. فكان له الصوت الأعلى في الموافقة على مبادرة مجلس التعاون الخليجي، التي قدمت بناءً على طلب من صالح قبل أن يعرقل الأخير توقيعها مراراً، بما في ذلك أمس. وسط هذه الأجواء، يتمسك المحتجون بأن النجاح وحده سيكون حليف تحركهم، مؤكدين أن صالح تعرّى على نحو شبه كامل أمام الجميع. فشعبه أدرك مدى ضعف رئيسه وبات لا يخشى من مواجهته. أما المجتمع الدولي فتيقّن من طبيعته المراوغة من خلال إجهاض صالح المبادرات الواحدة تلو الأخرى.
كذلك يحاجج اليمنيّون أن ما قبل الاحتجاجات ليس كما قبلها في تاريخ اليمن، مؤكدين في الوقت نفسه أنهم لا يتجاهلون الثغر والإخفاقات التي اعترضت الثورة خلال الفترة الأخيرة، وهو ما دفعهم إلى إطلاق مسار تصحيحي لها، مانحين رئيسهم فرصة الأيام العشرة التي بدأت في الحادي عشر من الشهر الجاري قبل أن يتحول خيار الزحف باتجاه القصر إلى خيار جدي للكثير منهم، نظراً إلى أن مسألة سقوط علي عبد الله صالح من وجهة نظرهم باتت مسألة وقت لا أكثر.