عكار | حفرة فنصب للعسكريين، فشبه انقطاع للطريق والكهرباء، ورائحة موت تنبعث من بقايا أسماك خلفها الصيادون على جانب الطريق. حفرة ثانية فثالثة ورابعة وخامسة، تتأكد أنك في عكار. يصر الدركي على أن صاحب المطعم يدين له بفروج، بعد سماحه للسيارات بالتوقف قبالة مطعمه، خلافاً للقانون. الفراريج التي تباع في عكار أصغر من كل فراريج العالم: «للفروج الكبير زبائنه، في بيروت. وللصغير زبائنه هنا».

ساحة بلدة ببنين مقفرة. أين الشباب؟ في الجيش أو يشوون فحم «الأراغيل» في مطاعم بيروت. الزراعة «ديموديه». أما الصناعة فمَن يحييها؟ نائب مشغول بإحياء الأمة، أو حزب يعتقد أن واجباته تجاه المنطقة تنتهي حين يفشل في إيصال من يمثله والمنطقة في المجلس النيابي.
باكراً يبدأ الليل هنا. لا ملاعب ولا قاعات رياضية ولا مكتبات عامة ولا صالات سينما أو بولينغ أو بليار. بالطرنيب يتسلى البعض، وبجلسات تتمحور حول شخص يسلي الآخرين عبر الاستهزاء بنفسه أمامهم.
«يستيقظون مع الديك وينامون مع الشمس»، يقول العسكري الجنوبي الواقف في ساحة حلبا، في النقطة نفسها حيث كان ينتصب تمثال الرئيس السوري حافظ الأسد قبل بضع سنوات. أين ذهب الجيش بالتمثال الذي فكّ من هنا؟
منذ خمس سنوات، لا تذكر عكار في عبارة إلا يحجز الموت مقعداً لنفسه فيها: تشييع شهداء الجيش في معركة نهر البارد كشف غطاء الإهمال عن قرى كانت مخبأة. جذور المقاتلين في فتح الإسلام أظهرت بعض الدوافع إلى التعصب. مجزرة حلبا. نواب المنطقة يزيدون المنطقة مللاً بتردادهم التعليمات التي تردهم، «زي ما هي».
وحدها وادي خالد، أصرت على الأضواء: مرة تثور على الأحادية السياسية السُّنية بقيادة تيار المستقبل. مرة تنتفض على القوّة الأمنية المشتركة، رافضة قمع التهريب. مرة تتظاهر تأييداً لغزة الصامدة، ومرات تستنفر في مواجهة الاستنفار العسكري السوري على الضفة السوريّة من النهر الجنوبيّ الكبير.
باكراً، تنبه الفانات التي انطلقت من وادي خالد الديوك إلى ضرورة الاستيقاظ. «عصافير الوادي»، كما يسميها سائقوها، عرفت أهله إلى الوطن. بعد الليل الفارغ، نهار ممتلئ. الطريق من بحيرة الكواشرة إلى وادي خالد رائعة: حجارة عكار السوداء تشيّد المنازل، تحرس بساتين الزيتون وتحتضن كروم العنب. في السهل، يزداد النسيم برودة. يتمايل «الغنّام» وسط خرافه. يضحك المسنّان على جانب الطريق، وما همهما إذا أكل الدهر أسنانهما. تضحك في سيرها إلى المدرسة للسيارة الغريبة. يزداد صوت فيروز عذوبة. ترقص سنابل القمح، وسط زهور صفراء. يظلل الورد شواهد القبور. خلال ثوان سيحضر كوب التوت وإبريق الشاي وركوة القهوة، وفي حال التمنع سيغمزك صاحب الدار مشيراً إلى أن لديه عرقاً نظيفاً وستحضر اللحمة «النيّة». الحفر كثيرة، لكن في المشهد العكاري ما يجعل المنطقة جميلة: ليس بالكهرباء وحدها يحيا الإنسان، يقول الحاج، فيتسلى أصدقاؤه: ولا بمياه الدولة أو الوظيفة المحترمة أو شارع الحمرا أو الدواء أو البنية التحتية. تقترب سوريا أكثر فأكثر.
وادي خالد وتلكلخ، حقاً شعب واحد في دولتين. النزوح بالاتجاه المعاكس هذه المرة، يراوح عدد النازحين بحسب أبناء الوادي بين أربعة آلاف وسبعة آلاف مواطن سوري، غالبيتهم الساحقة من النساء والأطفال. قليل منهم فقط عبر الحدود بطريقة شرعية وسجل اسمه عند الجيش. جميعهم أتى بهم الخوف ولا شيء آخر إلى هنا. يضخم بعض أهالي الوادي عدد الذين يحتضنونهم ليضاعفوا الحصص الغذائية التي تُوزع عليهم، فيما يذكر آخرون العدد الحقيقي ويفتحون أبواب منازلهم ليتفقد الزائر ضيوفهم. في جلسة عربية، يتوسط رجلان، أحدهما مريض والآخر معوق، ست نساء وأكثر من عشرين طفلاً. لهؤلاء اليوم رواية:
«يوم الجمعة الماضي كانت تلكلخ واحدة من الساحات السورية التي شهدت اعتصام المئات للمطالبة برحيل الرئيس بشار الأسد عن السلطة. وقد ازداد عزم المحتجين وحماستهم على مواجهة أخيرة مع السلطة حين بلغهم أن الجيش شارف على إنهاء مهمته الأساسية في مدينتي بانياس وحمص وينوي التوجه إلى تلكلخ، وازدادت الأمور وضوحاً مع إعلان التلفزيون السوري أن أميراً سلفياً أعلن تلكلخ إمارة إسلامية مستقلة عن الدولة. لاحقاً، كان يمكن مشاهدة الدبابات والملالات تقترب من تلكلخ. فرح الأطفال بالمشهد قبل أن تنبئهم ملامح أهلهم بذعر ينتظرهم. ليس في الدبابات ما يُفرح. حوصرت المدينة من ثلاث جهات، بحكم وجود الحدود اللبنانية في الجهة الرابعة. عند منتصف ليل الجمعة ـــــ فجر السبت، بدأت مكبرات الصوت إذاعة إنذار للمندسين والإرهابيين بضرورة تسليم أنفسهم. من تلكلخ إلى المقيبلة، تمر الطريق التي لا تتجاوز ثلاثة كيلومترات ببلدة سورية واحدة هي العريضة. معظم أبناء وادي خالد متزوجون من تلكلخ والعكس، لدى معظمنا منازل ثانية هنا، كما لأهل الوادي منازل ثانية في مدينتنا. علاقات قربى إذاً تضاف إلى علاقات مدرسية نشأت في ظل تردد أهل الوادي على تلكلخ للدراسة، وعلاقات عمل أساسها احتياج كل مهرّب على ضفة الوادي إلى مهرب ينتظره على ضفة تلكلخ. هكذا انطلقنا نحو الساعة الخامسة من منازلنا لنطل مع الضوء على وادي خالد. كل النهر معابر تصبح في ظل اللجوء السياسي ـــــ الإنساني شرعية. صادفنا في الطريق عناصر مجموعة واحدة من حرس الحدود السورية، كانوا في خيمتهم حين فوجئوا بنا، حاولوا ثنينا عن التقدم وتهديدنا بالسلاح، لكننا جرفناهم معنا. دفاعاً عن أنفسنا، قتل واحد وأصيب آخر بجروح يعالجها الصليب الأحمر الدولي، فيما سُلّم الاثنان الباقيان إلى استخبارات الجيش».
حتى هنا، تنتهي مشاهدات العيون لتبدأ «المشاهدات» السمعية: هذا يروي عن منزل سمع أنه تهدم على أهله، ذلك يروي عن فدائي قاتل دفاعاً عن أرضه ـــــ شرفه حتى آخر رصاصة ـــــ نقطة دم. وبينهما تنبت روايات عن شبّيحة ومسلحين من القرى العلوية المحيطة بتلكلخ يشاركون الجيش في هجومه. والأكيد أن أهالي تلكلخ لديهم من السلاح والخبرة القتالية أكثر بكثير من أهالي درعا وبانياس وحمص نتيجة عملهم في التهريب أولاً، واحتكامهم إلى العنف في مواجهتهم السلطات السورية عشرات المرات سابقاً، فضلاً عن أن الكثافة العمرانية وتداخل المنازل والأحياء يصعّبان على الجيش مهمته ويجعلانه في مرمى حرب عصابات صعبة في ظل تعب جنوده من المعارك المستمرة منذ ثلاثة أسابيع. ويستنتج من الروايات التي تتردد في الوادي أن معظم رجال تلكلخ بقوا في المدينة بحجة حمايتها من الشبيحة، وهناك فعلاً من التحق بعد بدء المعارك بأقربائه ليساندهم في الدفاع عن منازلهم، وخصوصاً أبناء تلكلخ الذين يقيمون أصلاً في الوادي. أما رواية الإعلام الرسمي السوري عن تسلل السلفيين والمندسين من بانياس بعد أن حاصرها الجيش إلى تلكلخ، فيصعب تصديقها نتيجة حجم المسافة التي تفصل بانياس عن تلكلخ وطبيعتها التي لا تسمح للمتسللين بالتخفي.
تلكلخ ـــــ وادي خالد، شعب واحد في دولتين. نطق أخيراً تيار المستقبل، ليدين ما يحصل في سوريا. نزل على الأرض لتقديم العون للنازحين. من منطلق إنساني، لا سياسي، يتدخل تيار المستقبل. كثيراً ما حلم النائب خالد ضاهر بهذه اللحظة: حاجّة سورية تناشده بعينيها ولسانها أن ينصرهم. لكن الحاجّ ضد التدخل في الشؤون السورية. يكتفي باستنكار حرب الإبادة التي يتعرض لها الشعب السوريّ، موصياً بضغط الدول العربية والمؤسسات الإنسانية وجمعيات حقوق الإنسان لإيقاف المجزرة. أما أهالي الوادي فيبدون أكثر حرصاً على ضبط ألسنتهم وانفعالاتهم. اعتاد هؤلاء الاتجار بالسياسيين بدل اتجار السياسيين بهم، ولديهم ملء الثقة بأن المرحلة الآتية إليهم بحدود مقفلة من الجانب السوري عقاباً لأهالي تلكلخ على موقفهم من النظام ستكون أصعب عليهم مما على جيرانهم. فأولئك لديهم طبابة وتعليم ومواد غذائية شبه مجانية، أما هم فموتهم جوعاً وارد في كل لحظة.
تغيب الشمس عن الوادي، يغرق في ظلام جواره السوريّ، حتى الضوء هنا يُهرَّب. ساعة إلى طرابلس وأخرى إلى بيروت. تبدو عكار أبعد من الساعتين بكثير. حلوة أم بشعة؟ تستحق البلدان المجاورة أن تزوروها لتحكموا بأنفسكم.