«كيف صار نور الجمل؟»، هذا هو السؤال الذي كان يتردد أمس في أزقة مخيم برج البراجنة. والوجوم سيد المكان. هنا وفي باقي المخيمات، بعد الحصيلة الدامية لمسيرة العودة، التي بدت غير نهائية، بانتظار أخبار الجرحى وخصوصاً من هم مثل نور الجمل في حالة حرجة. وفي وقت ما من نهار أمس، سرت شائعات «عن استشهاده» كما يقول أحد الجيران لـ«الأخبار». وفي مخيم شاتيلا، ترددت شائعات بأن اثنين من أبنائه استشهدا. هذه الشائعة دفعت البعض إلى إطلاق الرصاص في الهواء، ليتبيّن لاحقاً أن الشخصين جريحان. ومن مخيم البرج الى مخيمات الشمال الى الجنوب، بدت وجوه سكان المخيم بلا تعابير، مجرد أعين تنظر في الفراغ. «ما إلنا نفس على إشي، خايفين يزداد عدد الشهدا»، هكذا، لا يخفي محمد إبراهيم، أحد السكان، قلقه. أما في أصغر مخيمات بيروت، أي مار الياس، فقد بدت الحركة غير طبيعية. المؤسسات الأهلية أغلقت أبوابها تجاوباً مع الإضراب الذي دعت إليه الفصائل والمؤسسات المدنية الفلسطينية. وعاشت المخيمات حالة انتظار جماعي لما قد تؤول إليه حالة الجرحى الصحية. أما مخيم عين الحلوة (خالد الغربي) فقد شيّع 3 شهداء، هم عماد أبو شقرا (18 عاماً)، عبد الرحمن سعيد صبحي (20 عاماً) ومحمد أبو شليح (28 عاماً من مخيم المية ومية)، تشييعاً يليق «بعظمة الدم المسفوك في المكان الصح والوجهة الصح»، على حد قول مقاتل فتحاوي. قوى وطنية لبنانية تمنّت على الفلسطينيين أن تبدأ المراسم من ساحة الشهداء في صيدا تأكيداً لـ«شراكة الدم ووحدة المصير»، لكن قراراً فلسطينياً قضى بحصر مراسم التشييع التي شارك فيها النائب السابق أسامة سعد، على رأس وفد من الأحزاب الوطنية، داخل المخيم وسط إضراب عام وإقفال للمؤسسات التجارية والتربوية. «ما ماتوا بمعارك زواريب المخيم»، قالت سيدة بعدما أنهت زغرودة دامعة. يصلى على أبو شليح وأبو شقرا في مسجد الفاروق، بينما صلّي على صبحة في مسجد الصفصاف الذي تسيطر عليه القوى الإسلامية، التي قالت إن عبد الرحمن مقرّب منها، فلفّ جثمانه بكفن أخضر، فيما نعت منظمة التحرير الشهداء الثلاثة.
أما في مخيمات الشمال (عبد الكافي الصمد) فقد كان هناك أكثر من سبب لجعل البداوي ونهر البارد مشلولين قبل ظهر أمس، فإضافة الى الإرهاق الذي أصاب آلاف أهالي الذين شاركوا في «مسيرة العودة إلى فلسطين»، لم يذهب الطلاب إلى مدارسهم ولا العمال إلى أشغالهم، التزم المخيم بيوم الحداد الوطني فأغلقت جميع المدارس والمؤسسات أبوابها، ورُفعت الرايات السوداء في معظم شوارع المخيمين.
«لم يسقط شهداء من مخيّمي البداوي ونهر البارد من بين شهداء مارون الراس»، عبارة يؤكدها معظم المعنيين في المخيمين، إلا أنهم يبدون مرتبكين حيال إعطائهم معلومات مؤكدة عن عدد الجرحى الذين سقطوا، لأن «بعض الأسماء التي جرى التداول بها وقيل إنها بين الجرحى تبيّن أن المعلومات عنها غير دقيقة»، حسب قول المسؤول الإعلامي لحركة فتح في الشمال مصطفى أبو حرب، الذي يشير لاحقاً إلى أنه «تأكدنا من سقوط 4 جرحى هم: سامر ميعاري (أصيب بكسور جسيمة في قدميه)، محمود ربيع (أصيب برصاصة في بطنه)، سليمان وهبي وبلال حجو، وكلهم من مخيم نهر البارد».
لكن مسؤول الجبهة الديموقراطية في مخيم البداوي، عاطف خليل، يضيف أسماء أخرى، مثل خير شحرور (19 عاماً) من البداوي، الذي يقول إنه «أصيب برصاصة في قدمه اليسرى وعولج قبل أن يعود إلى منزل ذويه». هذا التضارب في المعلومات عن أعداد الجرحى وأسمائهم يعود إلى «الفوضى التي سادت مارون الراس في رحلة العودة»، بحسب عيسى حمدان.
وفي البص (آمال خليل) لم يكن جثمان الفتى محمود محمد سالم (17 عاماً) لشاب سقط نتيجة اشتباك فردي مسلح كما جرت العادة، بل لشهيد سقط أثناء أداء واجبه تجاه القضية وأحيا الجدران العتيقة التي تضمّ صور شهداء ومقاومين سقطوا منذ سنوات طويلة ولم يخلفهم أحد. وتوافد الناس بكثافة للمشاركة في تشييع الشهيد الذي نام ليلته في مستشفى صور الحكومي، قبل أن يجوب أزقة المخيم مودعاً، وصولاً الى منزل أسرته. في محيط المنزل المتواضع، غلبت أصوات النحيب وأزيز الرصاص الغاضب على الزغاريد والتهاني التي انهالت على والدته أماني سالم. محمود كان قد نال شهادته المدرسية يوم السبت الفائت، التي كرّسته من الطلاب الأوائل الناجحين في صف البكالوريا في ثانوية دير ياسين.
من منزله الى جامع الأقصى، مشى النعش محمولاً وملفوفاً بالعالم الفلسطيني الذي ظلّل بأعلام حركة فتح خصوصاً. لدى مروره من أمام مدخل المستشفى، كانت لميس القط (17 عاماً) بانتظاره لإلقاء النظرة الأخيرة على وجهه المكشوف. محمود كان صديقها وزميلها في انتفاضة السياج الشائك في مارون الرأس. إلا أن الرصاصة التي قتلته، كانت أخف وطأة عليها فأصابتها في بطنها ويدها. وقفت مستندة الى جدار وهي تحمل كيس المصل. وفي مخيم البرج الشمالي تكرر المشهد ذاته أيضاً، مع تشييع محمد سمير صالح فندي.
أما في بعلبك (رامح حميّة)، فقد أبى مخيم الجليل إلا أن يشارك بدماء أحد أبنائه. خليل أحمد محمد سقط عند تخوم أرضه التي رحل إليها بعينيه. سقط برصاصتين أصابتا ابن الواحد والعشرين ربيعاً. لم يكتب لطالب التمريض أن يعود إلى مقعده الدراسي لامتحانات آخر السنة، لكن طريق العودة لم يكن يوم أمس إلى أرض فلسطين. وكان جثمان محمد قد وصل فجر أمس إلى مستشفى بعلبك الحكومي، حيث نقل من ثمّ إلى منزل ذويه في دورس عند المدخل الجنوبي لبعلبك، ومن هناك شيّع إلى مثواه الأخير.
وفي الإطار ذاته، رأى الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله أن الشهداء أثبتوا للعدو والصديق أن تمسكهم بحقهم غير قابل للمساومة ولا للنسيان ولا للتضييع، وأن عودتهم الى ديارهم حقّ وهدف وغاية وأمل ويقين، تبذل من أجلها الدماء والنفوس والتضحيات الجسام.