على وقع الصدمة والحرج الذي أحدثه حرق قطعان المستوطنين عائلة فلسطينية في دوما جنوبي نابلس في الضفة المحتلة، سارع العدو إلى احتواء الحدث على لسان أكبر قادته السياسيين، عبر «ضرائب لفظية» لا تنطوي على أي تغيير فعلي، لجهة حماية الفلسطينيين من اعتداءات المستوطنين، أو شرعنة إجراءات رادعة في مواجهة هجماتهم، أو حتى على مستوى الخطاب السياسي الداعم لهؤلاء «القطعان»، في ظل أن الحكومة الإسرائيلية لا تترك فرصة للتعبير عن دعمها لهم وشرعنة سيطرتهم على أراضي الفلسطينيين.
وبرغم أن إسرائيل ارتكبت في قطاع غزة من الجرائم ما يفوق المجزرة البشعة التي ارتكبها المستوطنون عبر حرق عائلة فلسطينية، من ضمنها طفل رضيع شُيِّع يوم أمس، وبرغم أنها كانت ولا تزال تشرعن الجرائم التي ارتكبها جيشها بأوامر مباشرة وصريحة من قادته العسكريين والسياسيين، فإن الحرج السياسي الذي انتجه هذا الاعتداء، أمام المجتمع الدولي الذي يطالب إسرائيل على الدوام بحل نهائي للتسوية مع السلطة، وبفعل القلق من أن يتحول هذا الاعتداء إلى شرارة تؤدي إلى انفجار شعبي واسع في الضفة المحتلة ويكون بداية لمسار أمني جديد، سارع رئيس وزراء العدو بنيامين نتنياهو، إلى زيارة العائلة المحروقة في المستشفى وإطلاق مواقف كلامية وصف فيها هذا العمل بالإرهابي، مستنداً ومراهناً على نسيان الرأي العام الفلسطيني حقيقة أنه هو من وقف سداً منيعاً أمام إعلان الجماعات الاستيطانية التي تعتدي على الفلسطينيين أنها مجموعات إرهابية.
حدث ذلك قبل نحو سنتين، عندما اقترح وزير القضاء يعقوب نئمان إعلان الجماعات الاستيطانية المنظمة التي تعتدي على الفلسطينيين جماعات إرهابية. لكن نتنياهو امتنع آنذاك عن طرح الموضوع على الحكومة، بل أصرَّ على موقفه المعارض، مع أن المستشار القانوني للحكومة في ذلك الوقت، يهودا فينشتاين، «لم ير مانعاً من اعتبار اعتداءات المستوطنين المعروفة بمنظمة تدفيع الثمن أعمالاً إرهابية».
ويعود موقف نتنياهو المذكور إلى أن أي قرار رسمي في هذا المجال، سيكون له ترجمته الأمنية والقضائية على أساس «أمر منع الإرهاب». ونتيجة ذلك، يمكن تخويل الجهات المختصة صلاحيات اعتقال هذه الجماعات لمدد طويلة جدا، وإخضاعهم لأوامر الاعتقال الإداري واتخاذ إجراءات أكثر صرامة، فضلاً عن تمكين المحاكم من توقيع عقوبة سجن لمدة 20 عاماً بحقهم.
لذلك، إن الأوصاف الإرهابية التي أطلقها نتنياهو ومعه رئيس الدولة رؤوبين ريفلين، ووزير الأمن موشيه يعلون، وآخرون، ليست سوى ضريبة لفظية لا تعبّر عن توجهات قانونية وسياسية رسمية، بقدر ما هي محاولة لاحتواء الحدث ومفاعيله.
في كل الأحوال، من الواضح أن المسؤولين الإسرائيليين يرون أنهم بإدانتهم مثل هذه الجرائم، قد أدوا ما عليهم. وغداً يوم آخر. وضمن هذا تندرج خطوة نتنياهو بزيارة مستشفى شيبا تل هشومير حيث يعالج أهل الطفل علي دوابشة، وأطلق هناك مواقف لا يكاد المرء يصدق أن نتنياهو هو نفسه الذي أمر الطائرات بقصف المنازل على سكانها في غزة.
إلى ذلك، بادر نتنياهو إلى الاتصال برئيس السلطة محمود عباس، وقال له إن إسرائيل كلها مصدومة من الإرهاب ضد عائلة دوابشة. كذلك لم يفوِّت فرصة الاستثمار السياسي حتى في هذه اللحظة بالقول: «علينا أن نحارب معاً الإرهاب من أي جهة كان»، في إشارة إلى عمليات المقاومة الفلسطينية.
وطمأن نتنياهو، عباس، إلى أنه أعطى تعليماته للأجهزة الأمنية لتفعيل كل الوسائل من أجل العثور على القتلة، وأكد أن «دولة إسرائيل تتعامل بيد من الحديد مع الإرهاب أياً كان مرتكبوه»، بل زعم أن حكومة إسرائيل موحدة في معارضتها الحازمة لهذه الأعمال المروعة و«السافلة»، من دون أن يشير إلى الدور الذي تمارسه حكومته دفاعاً عن المستوطنين وتحريضاً على الفلسطينيين.
كذلك تجرأ نتنياهو وبعث تعازيه إلى عائلة دوابشة بمقتل الطفل وتمنى الشفاء العاجل لأبناء العائلة الذين أصيبوا بجروح، مع أنهم في حالة خطر شديدة.
أيضاً، هبّ الرئيس الإسرائيلي رؤوبين ريفلين لنجدة حكومته ومساعدتها على احتواء الحدث الذي أقلق إسرائيل من أن يتحول إلى عامل تفجير شعبي واسع، فأعرب عن اشمئزازه وصدمته من حرق المستوطنين لعائلة فلسطينية. وفي خطوة تعكس بشكل صريح القلق الإسرائيلي من الانفجار الشعبي، خاطب ريفلين فلسطينيي 48 والفلسطينيين عموماً، راجياً منهم عدم الاستسلام لمشاعر الغيظ والحنق التي تراودهم، ومعتبراً عن أن الانجرار إلى الممارسات المضرّة وأخذ الحق باليد لن يحقق شيئاً، بل يُعتبر «جائزة للإرهابيين». كذلك أعرب عن «خيبة أمله من اختيار عدد من اليهود طريق الإرهاب وفقدانهم صورتهم الإنسانية»، وهو ما يعني تبرئة كل الجرائم السابقة من الصفة الإرهابية وحصر القضية ببضع مستوطنين مشكلتهم أنهم مارسوا عنصريتهم هذه المرة عبر الحرق، بما يُذكر بالطريقة الداعشية في ارتكاب الجرائم.
وتحت وقع الضغط، وفي محاولة للالتفاف على الانتقادات التي توجه للخط الرسمي الإسرائيلي في التعامل مع هذه الظواهر، رأى ريفلين أن التعامل مع ظاهرة الإرهاب اليهودي ربما كان متساهلاً حتى الآن، إذ لم «يتم استبطان حقيقة وجود مجموعة عقائدية خطيرة تسعى إلى هدم الجسور التي يجري بناؤها بشق الأنفس». كذلك دعا القيادة الإسرائيلية «من اليمين واليسار» للتعبير بصوت واضح ليس عن إدانة الإرهاب فقط، بل عن التزامها الحقيقي تجاه «مكافحة العنف»، وذلك في محاولة لتوسيع نطاق الإدانة بما يشمل العمليات التي ينفذها المقاومون الفلسطينيون.
أيضاً، كان لموشيه يعلون، نصيبه في إطلاق مواقف مشابهة، معتبراً أن حرق الطفل الفلسطيني وقتله عملية إرهابية قاسية لا يمكن تحملها. وأعرب عن إدانته هذا العمل، متعهداً بمطاردة القتلة إلى حين القبض عليهم.