لم تعد ذكرى النكبة رواية يردّدها عجوز أتعبه الحلم، فيروي قصة عن بيت كان على مقربة من الشجرة والبئر فحسب. فيوم أمس حمل رسالة تاريخية قد تكون الأقوى منذ 63 عاماً، عن بشر لا يذكرون الصراع والحدود التي قسمت الحلم إلى شطرين فحسب، بل يتحدّونهما أيضاً. هكذا قرّر الفلسطيني أن يعبر حقلاً للألغام، ليعتلي سياجاً يصل طوله إلى مترين ونصف متر، من أجل عودة إلى قرية لم يعرفها. رسالة كانت شعاراً ذات يوم.
لم تشهد الحال استنفاراً لدى فلسطينيي الـ48 أمس، هم الذين أحيوا ذكرى النكبة في اليوم الذي تحيي فيه الدولة العبرية يوم استقلالها. لكن أصوات الفلسطينيين على الحدود حركتهم فصاروا جزءاً من الحدث. عند الظهيرة، كانت الشمس المشرقة تدل العابرين على الطريق الجبلية من فلسطينيي الـ48 إلى الحدود اللبنانية. الطريق تملأها الأشجار ويسودها هدوء ليس مشحوناً. من يشمّ الهواء النقي ويصدّق اللافتات المنصوبة على جانبي الطريق، سيجد أن المكان قطعة من جنة. لكن من يعرف التاريخ، سيعي أن هذه الطبيعة تخفي بين أشجارها رواية سوداء؛ فبعض من هذه الحدائق كانت قرى ومدناً فلسطينية مُحيت ذاكرتها. حديقة «برعام» هي أصلاً قرية كفر برعم، وإلى جانبها قرية أقرث التي تشهد الكنيسة على حالها. أناسها يسكنون في قرى مجاورة، يطلّون على ماضيهم بحسرة الحالمين. وهناك أيضاً مدينة صفد، تلك التي عاش فيها الفلسطينيون، لكنهم يتعرضون لمطاردة عنصرية يومية. وهنا على اليمين قرية «سعسع» التي تحولت إلى «بلدة ساسا»، وقد شهدت مجزرة وهدماً عام 1948. الطريق رائعة الجمال، لكن بين سطورها رواية لم تمحها الطبيعة الجميلة.
على الطريق المؤدية إلى الحدود، كان حاجز الشرطة حاضراً. منع القادمين من فلسطينيي الـ48 من الوصول إلى نقطة التماس مع الفلسطينيين واللبنانيين على الجانب الآخر. «كل ما نريده هو لقاء سلمي، وأن نشير بالأيادي»، قال أحد المتظاهرين من حركة أبناء البلد، التي دعت إلى المسيرة التي حملت عنوان «الطريق إلى مارون الراس». لكن القوات وقفت لمنع المسيرة من الوصول إلى مكانها، فتوقفت بعيداً. نزل العشرات من الحافلات، وهتفوا بشعارات لحق العودة، تفصلهم أمتار عن رجال الشرطة، وسنوات عن القادمين إلى الحدود من الجانب اللبناني. كانت الشعارات تعلو، سلمية المضمون، وثائرة الموقف، «شعبية شعبية، هذا الثورة شعبية»، لعلها تعبر الحدود. والحدود أصلاً تحمل معاني تجمع المأساة والأمل للفلسطيني. هناك يضيق الأفق، لكن الهوية تنمو دائماً. هناك يشعر الفلسطيني أن الأفق مطوّق، لكنه يلتفت إلى نفسه أنه فلسطيني.
أراد فلسطينيّو الـ48 أن تكون المسيرة سلمية. لكن كان للإسرائيليين كلمتهم، فاعتقل الجيش ستة شبان بتهمة الإخلال بالنظام.
غالبية الحضور كانوا من الشباب، تماماً كما في جميع الأحداث الأخيرة. فالنكبة وذاكرتها لم تعد فقط حكراً على من عاصروها، بل لمن يشعرون بها أيضاً. هذا الجيل الذي لم يعاصر النكبة، ولا النكسة، ولا هزائم أخرى، لديه صرخة حرة، يستمدها من كل شيء. هؤلاء يعاصرون صرخات الشباب من ميدان التحرير، وأصداء الوحدة الآتية من غزة ورام الله. فيوم أمس سجل صوتاً موحّداً، صرّح بحق العودة. «حتماً سنعود»، صرخة كانت أشبه بتصريح في اتجاه واحد، من دون تبادل اتهامات بين الأطراف، ومن دون دعوات إلى الوحدة لأنها ولدت. والأهم من ذلك كان سلمية المسيرات. الطريق إلى مارون الراس قطعت، لكن الصوت وصل. فالجدار الذي يقسم الأرض إلى شطرين، لم يفلح في تقسيم الصدى بعد.
الهتاف يعلو. كان يامن زيدان يرفع كوفية فلسطينية ويهتف ضد الممارسات الإسرائيلية. يامن الذي عرف تحولاً في حياته، من سجّان إلى مدافع وجزء من القضية الفلسطينية، قال لـ«الأخبار»: «الخامس عشر من أيار يذكّر بالجرائم ضد أبناء شعبنا. كل حجر في هذا المكان يذكّرنا بقصة وجريمة ارتُكبت».
قبل انتهاء المسيرة، كان رجل قد تجاوز السبعين من العمر، يدعى عاطف خالدي، يحكي قصته كيف وُلد وهُجّر في بلده. كان يخلط روايته بشعر يكتبه. قبل أن يذهب، تناول من جيبه قصيدة اسمها «الثورة»، وقرأ بيتاً: «صحوة الأمل بعد غفوة السنين. لا تساوم. أنت عائد أنت عائد».