عادت فلسطين أمس إلى الواجهة. لم تعد من باب مصالحة هنا، أو خلاف هناك، بل عادت من دماء أبنائها. عادت بعدما صبغ عشرة شهداء تراب بلدة مارون الراس الحدودية بدمائهم. الآلاف تركوا مخيماتهم باكراً، وكان آلاف الأشخاص قد جاؤوا في حافلات من مناطق لبنانية مختلفة في ما سمي «مسيرة العودة الى فلسطين». وعندما وصلوا الى بلدة مارون الراس تمكّن المئات منهم من اختراق صفوف الجيش اللبناني والاقتراب من الشريط الشائك الحدودي، رغم محاولات الجيش ثنيهم عن ذلك بإطلاق النار في الهواء، وأخذوا يرشقون الجانب الإسرائيلي بالحجارة ويلوّحون بالأعلام الفلسطينية. وقد شكّوا أعلاماً فلسطينية في الشريط الشائك.

وأطلق الإسرائيليون الذين كانوا على بعد أمتار من المتظاهرين، النار على دفعات، ما أدى، بحسب بيان للجيش اللبناني، الى «سقوط عشرة شهداء، وأكثر من 112 جريحاً، بعضهم في حالة الخطر».
وأشار البيان الى أن «قوى الجيش وُضعت في حالة استنفار قصوى، وأجرت التنسيق اللازم مع القوات الدولية لمنع تمادي العدو في استهداف الجموع، وانتهاك السيادة اللبنانية».
وعرف من الشهداء: محمد الفندي، محمد الموسى، من مخيم البرج الشمالي. محمد صالح من مخيم برج البراجنة. محمد إبراهيم أبو شليح من مخيم المية ومية. عماد ابو شقرا ومحمد الصبح من عين الحلوة. محمود محمد سالم وصالح أبو رشيد من مخيم البص. وتبيّن بحسب المعطيات الميدانية أن معظم الشهداء سقطوا برصاصات قاتلة مباشرة، إذ أصيب اثنان بالرأس مباشرةً، اثنان في القلب، واثنان في الرقبة. أما الأربعة الباقون فاستُشهدوا متأثرين بجراحهم في المستشفيات.
أصوات الطلقات النارية، طغت على صراخ عريف المهرجان، واضطر المنظمون الى اختصار احتفال كان بدأ في المناسبة في ساحة تقع على بعد كيلومتر واحد من مستعمرة افيفيم الإسرائيلية. وتضمن إلقاء كلمات وأناشيد وطنية ولوحات رمزية، مثل تسليم رجل عجوز مفتاح منزله في فلسطين الى فتاة في الخامسة من عمرها، تعبيراً عن استمرار الأجيال في تأكيد حق العودة. ثم كانت كلمات لممثلي عدد من المنظمات الفلسطينية أُطلقت بعدها بالونات ملونة بلون العلم الفلسطيني.
إطلاق النار أدى الى تضارب الأنباء بين أنّ «الجيش اللبناني يطلق النار على المتظاهرين» وأنّ «قوات العدو تطلق النار وهناك شهداء». خبر أكده عريّف الحفلة، الذي طلب من سيارات الإسعاف «التوجه الى الخطوط الأمامية، إذ هناك شهيد قد سقط». هنا نسي الجميع الحفل وتوجهت الأنظار إلى «تحت». أما «تحت»، فهو حيث كان يتساقط الشهداء. تتوالى الأخبار على الشاشة الضخمة التي نصبها المنظمون، فتنقسم الشاشة بين صورتين. واحدة من الداخل الفلسطيني، وأخرى لنقل الجرحى من أرض مارون الراس. صور الشهداء والجرحى غيّرت كل شيء. تقف النسوة أمام الشاشة العملاقة. يحاولن أن يعرفن هوية من سقط. إحداهن يغمى عليها فمن استشهد كان جالساً بقربها في الباص. تتزايد كثافة النيران، ويرتفع معها منسوب القلق في قلوب الأمهات والغضب في قلوب الشباب. يتصاعد الدخان الأبيض من خلف السياج الحدودي. الدخان الأبيض نفسه كان قد شاهده الجميع مسبقاً بما عرف بمجزرة الميركافا في سهل الخيام. تقترب الدبابة من الحدود، يسير قربها هامر عسكري. لحظات ويهدأ الجنون. يصمت كل شيء إلا صوت الريح وصافرات سيارات الإسعاف. فجأةً يطلب العريف من الجميع العودة الى باصاتهم، لكن لا حياة لمن تنادي. فالجميع بانتظار من هم بالقرب من الشريط الحدودي. فهنا المصاب جماعي والحزن كذلك أيضاً. حالات بكاء جماعية، وحالات إغماء جماعية. «ابني تحت»، تصرخ إحداهن، وهي تمسك بشخص لا تعرفه. تنتظر السيدة بالقرب من المنصة، لكن كيف يمكن قلب الأم الخائف أن ينتظر خبراً عن ابنها الذي قد يكون استشهد أو أُصيب. تقرر التوجه بنفسها الى مكان الاشتباك، لتختفي بين الجموع.
أمام الشريط الحدودي يتحول الجميع الى مسعفين. شباب يصعدون مئات الأمتار، ملابسهم ملطخة بالدماء. احمرار أعينهم يعكس غضبهم وحزنهم. «الشب اللي كان حدي اتصاوب برقبتو»، يصرخ أحدهم. سيارات الإسعاف تنقل المصابين. يحضر مغاوير الجيش اللبناني إلى المكان. يتوجهون لدعم زملائهم أمام الشريط الحدودي. يطمئن الجميع لحضور الجيش، «إذاً سيُسحب الشهداء والمصابون بهدوء» يقول أحدهم. لحظات حتى تبدأ حفلة جنون أخرى، إذ ولمدة نصف ساعة استمر إطلاق نار على نحو كثيف. أصوات النيران هذه هي أصوات موت محتمل. ثلاثون دقيقة إضافية زادت عدد الجرحى والشهداء، إضافةً إلى إصابة عنصر من الجيش اللبناني بحجارة المعتصمين.
كل ما حصل لم يكن المنظمون يتوقعونه. فالمكان اختير بسبب بعده النسبي عن الحدود، إذ كان الاقتراح الأولي أن يكون مكان الاعتصام أمام بوابة فاطمة، إلا أنّ المنضمّين تخوفوا من عدم قدرتهم على لجم جموح اللاجئين وهم أمام السياج مباشرةً. لذلك «فضّلنا مارون الراس لبعد المكان تقريباً عن الحدود»، كما يقول ياسر عزام، عضو اللجنة التحضيرية.
وكانت الطرقات المؤدية إلى مارون الراس قد غصت بالحافلات، أما الساحات والمواقف المخصصة لاستيعاب الوافدين، فامتلأت سريعاً، ما دفع المنظّمين الى إيقاف معظم الحافلات في بنت جبيل ليضطرّ الآلاف إلى إكمال الطريق سيراً على الأقدام.
مساءً، كانت المسيرة قد حوّلت مسارها من مارون الى مستشفيات بنت جبيل وصور وصيدا، التي رقدت فيها جثامين الشهداء والجرحى. ففي غضون ساعات قليلة، تحوّلت باحات مستشفيات إلى قبلة للمئات من أبناء المخيمات الذين وفدوا لتفقد هويات الضحايا وأحوالهم.
الجريح عادل الخطيب، من مخيم عين الحلوة، قال لـ«الأخبار» «تقدّمت وعشرات الشباب باتجاه الشريط، نريد الدخول الى فلسطين، نفضّل الموت على السياج الحدودي، إن لم نحقق ذلك، تخطيت السياج الشائك بعدما رفعناه بأيدينا، وجدت أمامي العشرات من الجنود الإسرائيليّين، أطلقوا النار مباشرةً علىنا فأصبت في رجلي اليمنى».
ويقول الجريح محمد حطّيني: «تخطيت السياج الأول ثم الثاني وعلّقت علم فلسطين فأطلقوا النار علي فوقعت أرضاً». وقد أصيبت طفلة فلسطينية في الرابع من عمرها بعدما ركضت مسرعة باتجاه أحد الباصات، وتقول والدتها: «دهس الباص رجل ابنتي التي كانت خائفة فأصيبت بكسور متعددة».
وفيما أعلنت اللجنة التحضيرية لحملة حق العودة أن برنامج تشييع الشهداء سيعلن لاحقاً، بدا واضحا من خلال الاجتماعات التي تنادت لعقدها الفصائل الفلسطينية والأحزاب الوطنية أن تحركات كبيرة ستشهدها بيروت والمناطق هذا اليوم، حيث من المقرر أن ينظَّم تشييع مركزي.