I «يا باشا إحنا تحت خط الإعدام»، الشاب قالها بمزيج من العنف والسخرية لبعثة تقصّي الحقائق التابعة للمجلس القومي لحقوق الإنسان حول فتنة إمبابة. البعثة شقت طريقها بصعوبة، السيارات دخلت طريقاً لا عودة منه. إمبابة قابلة للاشتعال، لا تحتاج إلى بنزين السلفيين، والقتلى يسقطون حتى في معارك يومية عادية، تبعاً لعنف الزحام والحياة في شوارع تحولت الى حديقة حيوانات مفتوحة.

الشوارع ضيقة، والبنايات عالية تكاد تغلق السماء، وتضع حداً للأفق، وتجعل من استعراض القوة وسيلة وحيدة للسيطرة على فضاء مشحون ومحتقن، ومن السهل تفجيره بشائعة أو حكاية منقوصة، بطلتها امرأة هاربة، مسجونة في الكنيسة. القنبلة انفجرت، والقطيع المنسيّ من الدولة، المرميّ بعيداً عن خططها، وجد راية نبيلة للعنف الكامن، والسخط العمومي.
هم في أوضاع أسوأ من الإعدام، والسلفيون يمنحون للغضب الحارق صك الجهاد من أجل الإسلام. لهذا اختلط السلفي بالبلطجي، كلهم هتفوا صيحة الحرب «الله أكبر»، من تلقّى التحريض في المسجد، ومن سمعه منه بعدما نفث آخر نفس في سيجارة البانغو. كلهم جنود في حرب السلفيين من أجل استعادة «دولة الخلافة» النقية، المرعبة للغرب، أو «الولايات المتحدة الإسلامية»، على حد تعبير داعية تلفزيوني اسمه صفوت حجازي.
الهوس بالأممية الإسلامية وعودة دولة الخلافة يثير العواطف المركونة، ويوقظ نرجسيات مجروحة، ويمنح الغضب بعداً مقدساً يدافع فيه البائس عن الله، ويحتمي في جيش يحطم الدنيا باسم «نصرة الإسلام».
II
الثورة لم تصل إمبابة، ربما، أو يعتبرونها لعنة على حد ما يُفهم من شاب ثلاثيني بعيد عن الأحداث يرى أن الفتنة: «انتقام من طرد الرجل الذي كان يحمينا». شاب آخر يعيش بنفسية مقاتل في حرب مواقع، يحمل سيفاً وعصا غليظة، يقول إن الحكمة وراء وقوفه منتصباً في مواجهة المسيحيين: «المالك مالك... والمستأجر مستأجر... ولازم يقعد بأدبه».
إنها سلطة من طحنته كل السلطات، يختار من يراه مستضعفاً في لحظة مناسبة ليعالج عجزه وشعوره بالضعف الأبدي، وليس هناك لحظة مناسبة مثل غياب النظام بشكله القديم، المستبد الطاغي، وغياب الرموز القديمة للسلطة، من عسكري المرور الى مخبر أمن الدولة وضابط المباحث، ومندوب الحزب الحاكم ورئيس الحي، وغيرهم من عصابة السيطرة.
التحرر من العصابة ليس بالضرورة خطوة الى الأمام، على العكس ربما تتفكك شبكات القوة، وتذهب الى مستوياتها الأدنى، ويدير البلطجي منفرداً ما كان ينفذ فيه تعليمات من يعلوه في العصابة. الفراغ في أدوات السيطرة على الحدائق البشرية المفتوحة في القاهرة لم يشغله الجيش لأن حركته ثقيلة، ولا يملك تفاصيل ولا خرائط الدروب الصغيرة. الخريطة غابت مع الجهاز، ومع الشعور العام بأن هناك لعنة ما أصابتهم بغياب العصابة، التي رغم قهرها، إلا أنها كانت توزع فتات الغنائم، وتخيف القوى التي تظن أنها «جيش الخلاص».
III
الزجاجات والحجارة تغطي الشوارع، وتظهر بين ثنايا أرض المعركة حكاية عوني، فتوة مسيحي من عصر قديم كان فيه جهاز أمن الدولة يجنّد المسيحيين، ويوظفهم للسيطرة على الدوائر المحيطة بالكنيسة. عوني خبير بالمعارك الطائفية، ويبدو قائداً سرياً لميليشيات سترد هجوم الميليشيات الإسلامية.
الميليشيات مجاز، بالضبط مثل الطوائف في مصر، ليست هناك كيانات سياسية يمكنها تكوين جيش مسلح يحمي الطائفة أو يقودها في حرب أهلية، وهذا مجاز ثالث، لأن الفتن في مصر لا يمكنها أن تصل الى مستوى «الحرب الأهلية»، ليس سوى خطابات صراع على موقع الضحية.
عوني أطلق في الهواء رصاصات الخوف أو الدفاع بعد الهجوم الأول للسلفيّين. الرصاصات أشعرت المسيحيين بالقوة ودفعتهم للاحتماء بالكنيسة وبواباتها الحصينة، وجيش الغضب لا يهمّه سوى الانتقام وحرق البنايات المملوكة أصلاً للكنيسة في إطار حرب مواقع ومساحات ممتدة عبر ربع القرن الأخير.
الشرطة هربت لأنها لم تُدرّب أساساً على حماية المجتمع. تربيتها تعتمد على بث الرعب لإبعاد الشعب عن الرئيس.
والجيش؟
باحث، مثل ضياء رشوان، طالب بإعلان الأحكام العرفية، أي بمزيد من سلطات الجيش، الذي لا يحب أن يمارس سلطات في مثل هذه اللحظات العصيبة، أي أنه كان «عسكرياً» أكثر من «العسكريين». وبدلاً من أن يدعو الى حسم أمني، وإعلان خطة تنمية، استدعى أقصى ما لدى سلطة، ليس من مصلحتها أن تظهر هذا الوجه كثيراً.
حظر التجوال في إمبابة يطبّق من الرابعة عصراً، وبشكل لا يشبه ما عرفه المصريون منذ دخول الجيش بعد جمعة الغضب (28 كانون الثاني). الجيش ليس مطالباً بالأحكام العرفية، لكن بمزيد من السياسة التي تجعله يمارس الحسم الأمني مع المحرضين، شاحني الجموع بشحنات الفاشية، والذين تربطهم جسور وإمدادات مع ضباط في جهاز أمن الدولة أداروهم كما يديرون كرات النار، وحاربوا بهم الإخوان، وهم الآن يبحثون عن حامل جديد للمفاتيح.
كيف أصبح مشايخ السلفية بهذا الحضور السياسي، ولماذا لم ينته عصرهم كما انتهى عصر دور ضباط أمن الدولة في السياسة؟
يشعر السلفي بالاستقواء عندما يرى المجلس العسكري والحكومة يستعينان بنجومه التلفزيونيين في حل الملفات السياسية، وتتحول تصريحات الدعاة الى أفكار سياسية يحددون فيها «هوية» مصر، وطريقها الى الجمهورية الجديدة.
ولا عدو للسلفي إلا أصحاب الديانات الأخرى، فهم وحدهم منافسوه على موقع المضطهد الذي يمنحه سحر الوجود بعد أكثر من 200 سنة على ولادة الدولة الحديثة في مصر.
هل ينتحر السلفيّون؟ هذا ما ستكشف عنه توابع فتنة إمبابة.

■ ■ ■

استنفار أمني وسياسي وقضائي لإحباط «تمارين الفتنة ـــ رقم 2»

مصر كلّها مستنفرة في وجه الفتنة الطائفية. الحكومة أعلنت النفير. القوات الأمنية وضعت يدها على 23 متهماً. شباب الثورة يحمون دور العبادة، وعواصم العالم قلقة

القاهرة | «تمارين الفتنة ـــــ رقم 2». تعبير يصلح لوصف ما حدث في مصر، أمس. فبعد يومين من عواصف الفتنة الطائفية التي هبّت على حي إمبابة في القاهرة، ساد هدوء حذر في الأرجاء، بعد تكثيف الجيش والشرطة وجودهما في كل الشوارع المؤدية إلى كنيستي مار مينا والعذراء اللتين تعرضتا لهجوم أدى إلى احتراقهما يوم السبت، بينما اشتعل الموقف أمام مبنى «ماسبيرو»، مقر التلفزيون الحكومي، بسبب تجدُّد التظاهر لعدد كبير من الأقباط، وهو ما يعني أن الأزمة قد تنتقل من إمبابة لتستقر أمام المبنى المذكور، الأمر الذي يعكس تحدياً واضحاً للمجلس العسكري الأعلى والحكومة، نظراً إلى حيوية موقع «ماسبيرو» وخطورته في قلب القاهرة.
وفي ظل الجهود الحكومية المبذولة للوقوف على حقيقة ما جرى، تمكنت الأجهزة الأمنية في مديرية أمن الجيزة، بالتنسيق مع القوات المسلحة، من إلقاء القبض على 23 شخصاً، من بينهم المتهمان الرئيسيان في أحداث إمبابة. وقد تمكن ضباط الإدارة العامة لمباحث الجيزة من ضبط المدعو ياسين ثابت (31 سنة ويعمل سائقاً)، وهو زوج الفتاة القبطية التي اعتنقت الإسلام، وكانت قضيتها السبب الرئيسي في تلك الأحداث، إضافة إلى المواطن القبطي، صاحب المقهى المجاور لكنيسة مار مينا، التي شهدت بداية أعمال العنف بين المسلمين والأقباط. من جهة ثانية، صرّح محافظ الجيزة، علي عبد الرحمن، أنه سيُبدأ بأعمال ترميم كنيسة العذراء ـــــ التي احترقت منها 6 أدوار كاملة ـــــ والمحال التجارية والمخابز والمنشآت المجاورة لها، فور انتهاء المعمل الجنائي من الفحص الخاص بالمواقع المتضررة، وهو ما يتوقع أن ينتهي خلال الأيام العشرة المقبلة، على أن تبدأ بعدها أعمال الترميم، التي تتحمل تكاليفها بالكامل محافظة الجيزة. وتوقع المحافظ كذلك أن تستغرق أعمال الترميم نحو ثلاثة أشهر، نظراً إلى كبر المساحة التالفة في المنشآت المذكورة، إضافة إلى فقدان الرسوم الخاصة بمبنى كنيسة العذراء، مشيراً إلى أن «التنسيق جارٍ مع راعي الكنيسة على طريقة تسليم الكنيسة التي أصرّ الأقباط على الصلاة فيها، أول من أمس، رغم حالتها». إصرار دفع بالمحافظة إلى تكثيف أعمال الترميم، وضغط المدة التي سيُعمَل فيها للانتهاء من ترميمها في أسرع وقت ممكن.
بدوره، كشف مدير الشؤون الصحية في الجيزة، الدكتور عبد الحليم البحيري، أن إجمالي عدد المصابين فى أحداث كنيستي مار مينا والعذراء في إمبابة، بلغ 242 مصاباً و12 قتيلاً. وقال إن عدد الحالات المحجوزة حالياً في المستشفيات وتخضع للعلاج والمتابعة، هو 43 حالة فقط، وباقي الحالات تقرر خروجها بعدما تحسنت، علماً بأنه يُتوقع خروج عدة مصابين اليوم من المستشفيات. وأشار البحيري إلى وجود 4 مصابين في وحدات الرعاية المركزة، حالاتهم مستقرة، وهم مصابون بطلقات نارية في الصدر والبطن والكتف، لافتاً إلى أن هناك 11 مصاباً حالاتهم حرجة.
وفي السياق، حاول الأقباط المعتصمون أمام «ماسبيرو» اقتحام المبنى، أمس، إلا أن قوات الجيش والشرطة تمكنت من التصدي لهم وإحباط المحاولة. ورشق المعتصمون الواجهة الزجاجية للمبنى بالحجارة، ما أدى إلى تحطمها. وقد وقعت اشتباكات بين بعض المسلمين والأقباط المعتصمين في المنطقة، الأمر الذي أدى إلى وقوع بعض الإصابات. وتركزت مطالب المعتصمين بمحاكمة الجناة في أحداث إمبابة وما سبقها. وشدد المعتصمون على ضرورة محاكمة المعتدين على الكنائس أمام الرأي العام، والتعامل بحزم مع كل من يسبب فتنة طائفية، والإفراج عن المعتقلين على خلفية أحداث كنيسة صول في مدينة حلوان. وردد المعتصمون هتافات للتنديد بالأحداث قائلين: «يا عصام يا عصام الأقباط في اعتصام»، في إشارة إلى رئيس الحكومة عصام شرف، إضافة إلى شعارات أخرى من نوع «بابا شنودة بابا شنودة دم الشهداء أصبح موضة... مش هنقعد في البيوت، جايبين كفنا وجايين نموت».
إلى ذلك، دعا «ائتلاف شباب الثورة» للتظاهر اليوم أمام ماسبيرو وميدان التحرير تحت شعار «دعوة للوحدة الوطنية والحفاظ على مدنية الدولة». ورفع الائتلاف مجموعة من المطالب، تتقدمها محاكمة مدنية عاجلة وشفافة للمسؤولين عن أحداث إمبابة، إلى جانب إصدار تشريع يجرم إشاعة الفتنة الطائفية. وطالب الائتلاف بتفعيل مواد القانون الخاصة بعدم استخدام الشعارات الدينية في الممارسات السياسية، وتأليف مجلس رئاسي مدني. موقف مكمل لتكوين شباب الثورة طوقاً بشرياً لحماية دور العبادة.
أما في ثانية كبريات المدن المصرية، الإسكندرية، فقد شارك عشرات المسلمين والمسيحيين في تظاهرة تدعو إلى الوحدة، ومعاقبة من شاركوا في عنف يوم السبت. ورددوا هتافات تقول: «هي هي المسرحية والأقباط هما الضحية» و«يا طنطاوي فينك فينك حرقوا كنيستي قدام عينك»، في إشارة إلى المشير محمد حسين طنطاوي الذي يرأس المجلس الأعلى للقوات المسلحة.
في المقابل، عقد أركان الأزهر، أكبر مؤسسة دينية في مصر، اجتماعاً طارئاً لمناقشة الاشتباكات الطائفية، ووجه مفتي الجمهورية علي جمعة دعوة إلى عقد مؤتمر للمصالحة الوطنية.
وفي المواقف العربية والأجنبية، تكرّرت الإدانات الواردة من الرياض وأبو ظبي وبيروت والاتحاد الأوروبي وباريس للعنف الطائفي الذي شهدته مصر.