هل هو خطأ في الصياغة أن ترد عبارة «المحرقة اليهودية» على لسان أحد المسؤولين في وكالة الأونروا في القدس المحتلة أثناء حديثه عن المواد التعليمية «الإضافية» للفلسطينيين؟ أم هي محاولة جسّ نبض هؤلاء بشأن إمكانية إدخال مادة كهذه؟ مادة تعرّف من طُردوا من بلادهم بمحرقة «ضحايا» النازية، الذين يحتلون اليوم بلادهم؟قبل شهرين، خرج المتحدّث الرسمي باسم الأونروا في القدس المحتلة سامي مشعشع ليقول إن «بحث تدريس المحرقة النازية يجري في المدارس الوكالة في غزة»، وإن التوجّه «لإدخال هذا الموضوع ضمن (المناهج) يتعلق بتوصيل مبادئ حقوق الإنسان وتطبيقاتها وأهمّيتها في حياة المجتمعات والأفراد». يومها، وبعد هذا التصريح الذي أقام الدنيا ولم يقعدها، اعتذرت الأونروا. قالت إن ما يدرّس في مدارس القطاع هو «الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي صيغ إثر الحرب العالمية الثانية والهولوكوست». لم يلتفت فلسطينيو الشتات إلى الاعتذار. ثاروا على المصطلح بداية، ليدركوا في وقت لاحق أن المشكلة أعمق بكثير: هي ثورة على الأونروا التي تذكّرهم في كل حين بأن تاريخ بلادهم المحتلّة وجغرافيتها يتسربان شيئاً فشيئاً من مدارس اللجوء، مقابل «تمرير» مواد تعليمية، حريّ أن تدرّس لإسرائيليين لا لهم.
هكذا، أنعش تصريح مشعشع تحرّك فلسطينيي الشتات، مولّداً حملات بالجملة تدعو إلى إعادة تدريس تاريخ فلسطين وجغرافيتها في مدارس الأونروا.
في هذا السياق وُلدت حملة «عائدون» التي أطلقتها رابطة بيت المقدس لطلبة فلسطين، وقبلها «مناصرة» التي أطلقتها مجموعة منظمات اجتماعية تنموية. حملتان لم تحملا إلا عنواناً واحداً «إدخال تاريخ فلسطين وجغرافيتها ضمن المنهاج المدرسي»، حسب مسؤول حملة عائدون أحمد مزيان.
صحيح أن تاريخ فلسطين وجغرافيتها ليسا في مناهج الأونروا لكن، هل صحيح أنهما لا يدرّسان في مدارسها بالمطلق؟
لا يمكن أن تكون الإجابة عن هذا السؤال واحدة، تماماً كما هي حال كتب التاريخ التي تتنوع بتنوع الجهة التي تنتجها. فهنا، لكل إجابته: الموجهون التربويون، الأساتذة المنقسمون أنفسهم على الجواب والأونروا والفصائل الفلسطينية أيضاً.
نبدأ من عام 1995 في محاولة للإجابة عن السنوات التالية. في ذلك العام، بدأت الأونروا توزيع خططٍ سنوية للمواد على المدارس التابعة لها. من ضمنها، خطة تتعلق بكيفية تنفيذ مادة الدراسات الاجتماعية المكوّنة من مادتي الجغرافيا والتربية للدولة المضيفة (لأن الأونروا تتبع في مدارسها منهاج تلك الدولة)، إضافة إلى مادتي تاريخ فلسطين وجغرافيتها. ترسل هذه الخطة إلى كل المدارس «التي عليها أن تلتزم بها كاملة»، يقول أحد المدرسين العاملين في إحدى مدارس الأونروا (رفض الكشف عن اسمه لكونه ممنوعاً من التصريح). لا يجد مدرّس مادة الاجتماعيات منذ ثمانينيات القرن الماضي مبرراً لهذه الحملات، فالتاريخ والجغرافيا موجودان «ولا يمكن الأونروا أن تحذف ذاكرة شعب»، يقول. ويتساءل: «إذا كان المقصود إلغاء الذاكرة، فلم لا تبدأ الأونروا حملتها بإلغاء أسماء المدارس التي هي نفسها أسماء قرى فلسطين؟». لكن، مع ذلك، يسجل المدرّس عتباً على وكالته التي لم تضع كتباً للمادة تتماشى مع المراحل التعليمية، باستثناء المبادرات الفردية. في ظل هذا الغياب، أو في أحسن الأحوال «الاستخفاف»، يستعين الرجل بكتب يخبئها منذ السبعينيات والثمانينيات، وبعض كتب جمعية المقاصد الإسلامية.
لكن، حتى هذا العتب لا يجده بعض المحسوبين على الأونروا مبرراً. فبرأيهم، لا أهمية للكتاب: «المهم أن ندرّس ولو كان تسوّلاً من مصادر أخرى». ربما العتب الأكبر، بحسب هذا المصدر هو «على الأستاذ نفسه، الذي يحسب حساباً لكل معلومة إضافية أو ورقة زائدة». ففي فترة من الفترات، كانت الصعوبة كبيرة في تدريس المادة في مدارس الأونروا «مع ذلك، كان يخاطر الأستاذ في تمريرها، من يتذكّر مثلاً أبو ماهر عندما كان يدخل صفه حاملاً البيجاما معه لأنه يعرف أنه بمجرد إنهاء الدرس عن فلسطين سيقوده المكتب الثاني إلى التحقيق؟». مع ذلك، بقي الرجل مؤمناً «بأن تعليم اللاجئين عن بلادهم لا ينحصر بخطة تدريس».
ما يقوله رجل الأونروا قد لا يعجب أصحاب الحملات ولا حتى بعض أساتذة مدارس الوكالة. هؤلاء منقسمون بين مؤمن بوجود خطة وصعوبة تغطيتها، وبين من يرى أن عدم اعتماد الخطة رسمياً مواز لعدم وجودها.
أصحاب الرأي الأول هم نصف الكادر التعليمي، أو لنقل النصف + واحداً. هم يعترفون بوجودها، لكنها «خطة رفع عتب غير ملزمة، خصوصاً أن مادتي تاريخ فلسطين وجغرافيتها ليستا مادتين أساسين إثرائيتان»، يقول أحد أساتذة الأونروا. لهذا السبب «قد لا يلتزم الكل بتدريسهما، حتى إننا لا نستطيع تدريسهما بسبب ضخامة منهاج الدولة المضيفة».
ثمة رأي آخر، «لا الخطة التي يتحدثون عنها معترف بها ولا حتى منهاج الدولة المضيفة يأتي على ذكر فلسطين، وهذا ما لا يمكن التغاضي عنه. فمادة عن فلسطين ضرورية لمراعاة خصوصية الطالب الفلسطيني صاحب الوضع الاستثنائي»، يقول ممثل حركة مناصرة والمدير التنفيذي في جمعية نبع ياسر داوود.
عن هذا، يجيب رجل الأونروا بالقول إن «الأونروا تضع خطتين: واحدة إجرائية لعام واحد، وأخرى لعامين تتعلق بالتدريب وإنتاج مواد إثرائية. ويحاسب المدرس على عدم إتمام الخطة». أما في ما يخص التدريس، فيوزع الرجل المسؤولية على أربع جهات: الأستاذ والفصائل والأونروا والأهل. المسؤولية تبدأ من الأهل «الذين يجب عليهم تلقين أطفالهم ما يعرفونه عن بلادهم، على الأقل مسقط الرأس، أما الأستاذ فباستطاعته إيجاد الوقت ولو على حسابه الخاص». أما الفصائل «فبإمكانها الضغط على الأونروا». والأخيرة «إن كانت ملتزمة سياسة الأمم المتحدة، فبإمكانها أداء دورها بوصفها مسؤولة عن اللاجئين».
لكن، ليس المطلوب تحميل مسؤوليات، بل «فرض المادة مادةً أساسية من ضمن المنهاج التعليمي لا إثرائية ولا إضافية»، يقول رئيس اتحاد الشباب الديموقراطي الفلسطيني يوسف أحمد. ثمّة أمور أخرى يعرضها أحمد، منها العمل «على إيجاد كتب موحّدة لتدريسها، أو في أحسن الأحوال تبنّي مبادرات بعض الموجهين الذين يصوغون كتباً خاصة، إضافة إلى فرض رقابة من الأونروا على المدرسين لناحية مدى التزامهم بتعليم المادة». أما الأمر الآخر ربما، فهو «عدم حصرها بمرحلة تعليمية دون أخرى، فاللاجئ مهما بلغ من العمر يحتاج إلى معرفة فلسطين».
أمر أخير، لا يقوله يوسف فقط، بل يتفق عليه الكثيرون، وهو كتب «المبادرات الذاتية»، فهي غير كافية وأحياناً غير واضحة. بعضها مثلاً يتوقف عند وعد بلفور، وبعضها «طارت» منه كلمة النكبة بقدرة قادر. فهل المقصود أن يصبح الفلسطيني جاهلاً بفلسطينه؟ هل هذه هي إرادة «المجتمع الدولي»؟



في السبعينيات والثمانينيات، كان كتاب التاريخ مادة أساسية في منهاج الأونروا. عام 1993، بدأت تتسرب فلسطين من الكتب. لم يعد هناك كتاب ثابت. وقد كان لهذا التحول بضعة أسباب منها مفاوضات أوسلو واتباع الوكالة منهج الدولة المضيفة. في تلك الفترة بدأت الأونروا تتخفف من فلسطين، وما كانت توزعه من كتيّبات بات أشبه بكتاب تاريخ، لا يتعلق مباشرة بالقضية، بل بموضوعات حدثت في فلسطين مثل «الصليبيون والمغول» و«فلسطين في عهد الانتداب البريطاني» و«مراسلات الحسين مكماهون».