عدن | تبدو مديرية «التوّاهي» في مدينة عدن (جنوب اليمن) كمنطقة معزولة عن سياق ثورة الشباب اليمنية المتفجرة بكثافة في باقي مديريات عدن، وكافة أرجاء المدن اليمنية، حيث تبرز عوامل عدّة تمنعها أو تعوقها عن الجريان خلف موجة «الثورة»، ومنها ما يمكن وصفه بـ«المنطقة الخضراء» على غرار ما هو معروف في بغداد.ومن هذه «التوّاهي» يمكن معرفة لماذا اختارها أعوان نظام الرئيس علي عبد الله صالح نقطة لتصدير الرعب الممكن حدوثه لأهل مدينة عدن. فهنا، على مدخلها الشرقي، يقع مبنى الأمن السياسي السيّئ الصيت، وإلى جواره يتمركز المبنى الخاص بسكن قياداته، وبالقرب منه يقع مبنى الإذاعة والتلفزيون فرع مدينة عدن، المجهّز بحراسة نوعية خاصة، نظراً إلى حساب أهمية بقائه في أيدي الأجهزة الأمنية التابعة للنظام الحاكم والحرص على عدم سقوطه. ولا غرابة هنا في أن نجد صورة علي عبد الله صالح على واجهة المبنى، وهو من المباني النادرة التي لا تزال ترفع هذه الصورة، نظراً إلى تمتّعها بحراسة خاصة تمنع الشباب من الاقتراب منها.
إضافة إلى هذه المراكز الأمنيّة، وعلى بعد نحو مئة متر منها، هناك مقر قيادة الشرطة العسكرية الذي لا يتمتع العناصر المقيمون فيه بعلاقة طيبة مع المواطنين، نظراً إلى تورط هذه القيادة في أعمال القمع التي تجري منذ انطلاقة ثورة الشباب اليمنية. كذلك يقع بالقرب منه مبنى قيادة الحرس الجمهوري، وهي القيادة التي لا تزال تفرض سيطرتها على أمور المدينة، وتتحكم في مداخلها ونقاط التقاطع الموصلة بين المديريات المختلفة في المدينة.
وإلى جانب كل هذه القيادات تقع قيادة القوات البحرية وفرع قيادة خفر السواحل، المدعومة بنحو شبه كامل من الولايات المتحدة وفرنسا، وخصوصاً بعد تفجير المدمرتين «كول» الأميركية و«لومبيرغ» الفرنسية، وهو ما جعل هاتين الدولتين تعملان على التركيز على هذه المنطقة، والحرص على توفير الغطاء اللوجستي لها.
بناءً على ذلك، ومن خلال النظر إلى هذه المنطقة كدائرة أمنية مغلقة، يبدو أمر اختراقها من قبل أي جماعات مسلحة مسألة شبه مستحيلة، حيث يلزم الوصول إلى مركز هذه المنطقة اختراق كل تلك النقاط قبل التمكّن من ذلك. لكن أيّ شيء قد يبدو ممكن التحقق لو كان يسير في الاتجاه الذي يريد النظام إيصاله، بهدف بعث رسالة إلى الخصوم المتربصين به، والمنتظرين للحظة سقوطه.

جماعات إسلامية لا «قاعدة»

من خلال إلقاء نظرة عامة على أفراد الجماعات الإسلامية في مديرية «التوّاهي»، يمكن ملاحظة وجود كثيف لأفراد تبدو على هيئاتهم وملابسهم سمات الالتزام الديني الأصولي، بدءاً من السراويل القصيرة مروراً باللحى المُرسلة، وصولاً إلى وضع الساعات في المعاصم اليمنى، وهي الصورة النمطية المعروفة عن العناصر المنتمين إلى الجماعات السلفية التي وجدت في مدينة عدن عموماً ساحة للانتشار والتمدد بعد حرب صيف 1994 التي قادها اللواء علي محسن الأحمر، قائد المنطقة الشمالية الغربية، بمعاونة الشيخ طارق الفضلي وجماعته العائدة من أفغانستان، والتي استُخدمت لتنفيذ «غزوة عدن»، مستغلاً ثأراً قديماً بين الفضلي والحزب الاشتراكي اليمني.
ولكن لاحقاً جرى التحلل من هذا التحالف، وخصوصاً مع بداية الحراك الجنوبي في عام 2007 وانضمام طارق الفضلي إلى صفوفه. ومن هنا تمكن الإشارة إلى أن هذه الجماعات السلفية المنتشرة في مديرية «التوّاهي لا ترتبط بالأجهزة الأمنية بأي شكل من الأشكال، إذ لا تعترف بشرعيتها من الأساس، ولكن تتعايش معها وتتقاطع مع سلطتها في الحد الأدنى والممكن لتسيير أمورها الخاصة، عكس عناصر تنظيم «القاعدة» الذي ثبت تورطه في أعمال مشتركة بينه وبين السلطة، رغم ظاهر العلاقة المتوترة التي تبرز من خلال بعض المواجهات الشكلية التي تُنفّذ بين فترة وأخرى بغرض إظهار السلطة لشركائها الغربيين صدق توجهها في ملاحقة عناصر التنظيم. وتأتي هذه المواجهات الشكليّة رغم انكشاف ظهر السلطة في هذا الأمر عبر أكثر من واقعة كان أبرزها هروب نحو 24 عنصراً خطيراً من قيادات «القاعدة» من سجن الأمن السياسي في صنعاء، وهو المبنى المحصّن إلى درجة يستحيل معها هروب أيّ عنصر من داخله إلا بتواطؤ من داخل السجن نفسه.
كذلك لا يمكن إغفال واقعة الهجوم الذي نفذه عناصر من «القاعدة» على السجن التابع لقسم تحقيقات الأمن السياسي في مديرية «التوّاهي»، وكانت العملية تهدف إلى إطلاق سراح عدد من المعتقلين هناك. وبحسب صحافي كان موجوداً وقت الهجوم في مبنى نقابة الصحافيين المقابل لمبنى الأمن السياسي نفسه، فإن الهجوم حصل خلال وجود عناصر من تنظيم «القاعدة» في المكان للتحقيق معهم، «ومن المعلوم أنه لا أحد سوى عناصر رفيعي المستوى في الأمن السياسي لهم حق معرفة مواعيد هذه التحقيقات وأوقات نقل العناصر المطلوبين إلى سجن الأمن السياسي، وهو ما يطرح تساؤلات بشأن الطريقة التي علم بها المنفذون موعد وجود رفاقهم هناك».
ويضيف الصحافي الذي فضّل عدم ذكر اسمه، أن الهجوم على السجن استمر نحو ساعة، جرى خلاله تبادل إطلاق النار بكثافة، من غير أن يدفع العناصر الأمنية الموجودة في المباني المجاورة له إلى التدخّل لحسم المواجهة. وقد تمكن تنظيم «القاعدة» من تحرير عناصره، فيما لم يُعلن بدقة عن أرقام القتلى الذين سقطوا في هذه المواجهة.
أمّا الجماعات السلفية، فقد استخدمها النظام، قبل نحو شهر ونصف، لمهاجمة بعض الحانات الموجودة في منطقة «التوّاهي» بغرض إرسال برقية إلى الأوساط المدنية واليسارية هناك عن شكل النظام الذي سيحلّ بدلاً من نظام الرئيس صالح إذا رحل.

الوقوع في الفخ

في تلك الواقعة التي حصلت بداية شهر آذار، تمكنت السلطات من استخدام عناصر من تلك الجماعات السلفية كورقة حُرقت سريعاً بعد الانتهاء من استخدامها. فقد صُنع ذلك الفخ عن طريق تسريب أمنيّ نجحوا في إيصاله إليهم يقول إن الوقت قد صار مناسباً لمهاجمة الحانات التي تبيع المشروبات الكحولية للمواطنين، وتقع إحداها مقابل أحد المساجد المبنية حديثاً، أي بعد إنشاء حانة «البحارة» بوقت طويل، التي تقع إلى جوارها حانة «نشوان» التي ارتبط اسمها بوجود رموز كبيرة من اليسار العربي والقومي ومن الأسماء الأدبية الشهيرة التي ارتبط صعودها الحداثي والأدبي على وجه الخصوص بفترة حكم الحزب الاشتراكي اليمني للجنوب، بما كان يتيحه من بيئة حرّة وملائمة لحياة تناسب هؤلاء الأدباء. ومن هنا يمكن التقاط المعنى الرمزي في سقوط وإحراق مثل هذه الحانة بالنسبة إلى هذه الجماعات التي لطالما عدّت نظام الحزب الاشتراكي نظاماً مارقاً وملحداً وتعاملت معه على هذا الأساس. ونجاحها في إغلاق مثل هذه الحانات إنما يأتي في سياق تحقيقها لثأر قديم يبدو أنه لا يزال حيّاً في داخلها.
وبالفعل نجحت عناصر تلك الجماعة السلفية في مهاجمة حانتي «البحارة» و«نشوان»، ولم يكتفوا بعملية تدمير المبنى وتحطيم ما كان بداخله من بضاعة، بل أُحرق المبنيان في عملية أظهرت عمق ذلك الثأر الراقد في قلوبهم وقد تمكنوا من إيقاظه.
ورغم وقوع الحانتين في المنطقة التي ذُكرت حدودها ونُوّه بحصانتها، استمرت عملية الهجوم من الساعة العاشرة مساءً وانتهت في الخامسة من اليوم التالي، وكل هذا تحت نظر تلك الأجهزة الأمنية الكثيرة الموجودة بالقرب من المكان. ولكن في حركة ارتدادية، ومن أجل إيصال رسالة أمنية أخرى من أجهزة السلطة، أُعلن تنفيذ حملة للقبض على كل المشاركين في الهجوم، وقد جرى ذلك في وقت قياسي، بمساعدة أجهزة التصوير التي كانت داخل الحانتين. وبعد هذا، أُعلن أيضاً أن السلطات عوّضت مالكي الحانتين مادياً، في إشارة إلى أن السلطة لا تزال ممسكة بأمور المديرية والمدينة، وأنها الوحيدة القادرة على تسيير أمورها.

13 كانون الأوّل مرّة أخرى

يلعب نظام الرئيس علي عبد الله صالح جيداً على ورقة تاريخ الحزب الاشتراكي اليمني، وخصوصاً مسألة الترداد الدائم والتذكير بما حدث في واقعة الحرب الأهلية بين أفرقاء الحزب الاشتراكي في كانون الثاني 1986 في مدينة عدن.
وتكاد علامات الفزع والخوف تقفز من أعين الذين عايشوا تلك الأحداث واكتووا بنارها، وهم يخشون من إمكان تكرار حوادث تلك الأيام الدامية إذا رحل الرئيس علي صالح.
لا يزال نعمان (اسم مستعار) يتذكر جيداً ذلك الصباح الذي حمل خبر اندلاع الحرب الأهلية بين أفرقاء الحزب الاشتراكي اليمني، وسماعه أصوات المدافع التي كانت تحتل الشوارع ولا تترك للشخص فرصة لسماع صوت من يجلس إلى جواره. ويقول «كنت في العشرين من عمري يومها، لكني كلما تذكرت ذلك اليوم اعتقدت أنه لم يغادرنا بعد». ويؤكد نعمان، المولود في مدينة عدن من أسرة أصيلة فيها، أن هذا ليس شعوره وحده فقط، «بل هو شعور غالبية الناس هنا ممن عاشوا تلك الأيام».
وما يثير الرعب في نفوس البعض هنا، إضافة إلى ذكرى تلك الحرب الأهلية «البشعة»، تأكّد الأنباء التي تقول إن أعوان الرئيس علي عبد الله صالح يوزّعون أسلحة على كوادر حزب المؤتمر الشعبي العام: «إنهم يشيعون في صفوفهم أن ثورة الشباب الحاصلة اليوم تضع من ضمن أهدافها اجتثاث كوادر المؤتمر الشعبي، كما حصل تماماً مع كوادر الحزبين الحاكمين في تونس ومصر».
كذلك يخشى نعمان الأخبار التي تتجه نحو القول إن «ثورة الشباب اليمنية» قد جُيّرت لحساب قوى محددة وجماعات كانت حتى وقت قريب على علاقة وطيدة بنظام الرئيس علي عبد الله صالح، واستطاعت الانخراط في صفوف الثورة، وذلك «من أجل تحقيق غايات في نفوسها من أهمها الانتقام من الرئيس صالح شخصياً وتصفية حسابات خاصة عالقة بينها وبينه». ويضيف أن هذا الأمر هو ما يثير الرعب في نفوس مواطنين اكتووا بنار هذه الصراعات التي تعتمد على الانتقام دافعاً لها، لا تحقيق مسألة التغيير وإحداث واقع أفضل بدلاً من السابق. ويختم نعمان قائلاً: «أعتقد أن كلفة هذا التغيير وقتها ستكون باهظة جداً».