«أعزّ بعيد»!
الطريق كانت دائماً تنحدرُ باتجاهين متوازيين تماماً! أنام وأصحو وأنا أُفكر بخطوات تجمعنا معاً، هي في بلاد، وأنا في بلاد أخرى... لا أُنكر فضلَ شبكة التواصل الرائعة التي تُراعي مشاعرنا فتقدم لنا خدمة «أعزّ بعيد» فتكون مكالماتنا مُخفوضة، لكن الصوت وحده لا يكفي، هناك أشياء أكبر من «حكي جوّال»! أختي الجميلة، غادرت غزة تاركة إيَّايَ أنا طفلتها المُدللة، وصوراً في كلِّ أنحاء البيت لها، وصورة في محفظتي. من يُمرّ بهذه التجربة وحده يعرف أنني أفتقدُ جزءاً ليسَ بيسير مني ومن ذاكرتي. حسناً: «سأتصل دائماً بك، انتبهي لنفسك». وأُبادلها الكلام ذاته، وأنا على ثقة بأنها خطوة ليست قصيرة، ستتزوج، ستبقى هناك في السعودية، لأجل مُسمَّى، بكيتُ واكتفيتُ، واكتفينا حينها بهزَّة الوداع!
أُمّي المسكينة تُهاتفها: «آخ يا إمي تسكرت المعابر، ايمتى بدنا نشوف ولادك!».
وحتى لو فتحوا المعابر، أُمي تقول أيضاً «معبرنا مالو أمان!»، بين ليلة وضحاها يفتح ويُغلق مجدداً، بلا ذكر للأسباب! مزاج!
جاءت إلى [هنا] بعد أربع سنوات. يا إلهي ماذا فعلت بها الغربة؟ إنها صورة عن أختي، لكنها ليست هي، تتكلَّم للضرورة، دائماً ما تكون في عالم آخر، حزينة لو ابتسمت، وتصنَّعت مرحها السابق، عادت بهوية بلاد أخرى، بهوية السعودية!
أمَّا أختي فابتلعتها الغُربة بين فكَّيها، وحين قرّرت العفو عنها قليلاً ارتدت ثوب بلاد «مش بلادنا»!
الغُربة: طريقة مُختصرة للندم، وهكذا كانت معها، هي تجدُ كلَّ شيء ما عدا ما تحتاج إليه حقاً، حين تبكي وتتألم تستند إلى جدار بارد!
في فلسطين، كم تغريبة عشنا، ونعيش! ولا تكون الغُربة دائماً في دُولٍ تفصلها الحدود، في فلسطين... كم دولة! كم انفصال! كم حدّ! في غزة غُربة من نوع آخر أيضاً؛ بين الأهل، بين الإخوة، والأصدقاء، «تانيا، فينا نحكي ما باليد حيلة... الاشيا بتنفرض علينا، بس الغُربة فرضناها وبنفرضها شو بنحكي؟
برجع وبشكر شركة جوال والحكومات كلها ع فكرة (أعز بعيد)!».
أماني شنينو ــ غزّة

■ ■ ■

آه من التغريبة!

الله يخزي الغربة والتغريبة. يموت الأقارب كل واحد منهم بديرة، وكلّ أخ بواد، وما يدري الأخ عن أخته شيئاً، لا بل إنه يموت وهو لا يعرف حتى انّ أخته الوحيدة صارت بدار الحق قبله.
موسى دياب عبد المعطي؛ توفي يوم الجمعة 24/12/2010 في الفراديس المتاخمة لقريته الطنطورة قضاء حيفا، فلسطين. وطفى دياب عبد المعطي؛ شقيقته، توفّيت أيضاً يوم جمعةٍ لكن في 29/1/2010 في مخيّم البدّاوي شمال لبنان.
كان موسى الأصغر بين إخوانه. هو أخرس، متزوّج وله 5 أولاد... وقع خبر وفاته علينا (نحن أولاد أخته وأحفادها) أليماً كوجع في القلب، خاصّةً أنّنا لم نكن متأكّدين إن كان يعلم أو لا بوفاة شقيقته قبل موته.
موسى هو الوحيد الّذي بقي في الداخل الفلسطينيّ، حيث لم يكن سهلاً أن نتواصل معه وعائلته في الداخل لعدم توفر رقم هاتف لهم، أخواه الآخران كانا يعيشان في سوريا؛ واحد توفي منذ سنين والآخر توفي بعد وفاة جدّتي وطفى ببضعة أشهر، والآن هو.. وكلّ في بلد!
في عام 1994، أي قبل 16 سنة، استطاعت جدّتي أن تدخل الأراضي المحتلّة عن طريق الأردن؛ وهناك التقت بجدّي موسى وعائلته، وبقيت عنده بضعة أيّام، رافق جدّي فيها جدّتي إلى قريتهم الغالية الطنطورة، أكبر قرى فلسطين، وذهبا إلى حيث كان بيتهما موجوداً، وهناك قالت جدّتي لليهود المستعمرين: «هاد بيتنا إلي انتو ساكنين فيه إسّا»! قالوا لها أن تبقى فردّت عليهم بعزم: «برجع ع لبنان بجيب ولادي وباجي»! فصمتوا مرتبكين.
فرحة جدّي بأخته كانت لا توصف، أقام المآدب على شرفها، وأخذها إلى كلّ بقعة يستطيع أن يصل إليها في الأرض المحتلّة.
لطالما كنّا نحلم بلقائه؛ أمّي وأنا، الخال الأصغر المفضّل عند شقيقته، لكن شاء الله ما قدّر وفعل...
تواصلت مع أصدقائي في الداخل محاولةً الوصول إلى عائلته والحصول على رقم هاتفهم لكي نستطيع أن نتواصل معهم وعلى الأقل تقديم التعازي لهم... لكن إلى الآن ما زلنا ننتظر على أمل التوفّق بخبر وبشرى سماع أصوات أهل أمّي الباقين في أرضنا المحتلة. عن جد نيّالك يا سيدي موسى، دفنت بتراب الوطن الغالي، وعقبالك يا ستّي... نحقّق وصيتك وننقل جثمانك لأرض الطنطورة. جنب سيدي تمام».
تانيا نابلسي ــ مخيّم البدّاوي