Iالرسائل تصل إلى الجيش متأخرة، والشعب المذعور ينتظر مؤامرة؛ سيعود مبارك، سيحكمنا السلفيون، الجيش سيدفع برئيس عسكري في بدلة مدنية. التفكير هنا ممنوع. الهواجس تحل محل الأفكار، فالعقل السياسي لا يزال في مرحلة طفولته، ولم تتخلص الغالبية بعد من سطوة الفكرة المستبدة: السياسة قدر.
«الشعب خلاص... أسقط النظام»، لكن هناك من ينتظر أن يسقط النظام الجديد من أعلى، كما كان يحدث عندما تصنع التحولات السياسية في مكتب الرئيس ومطابخه، التحولات كلها جرت بعيداً عن إرادة الشعب. ماذا يريد الشعب ما دام الديكتاتور هو تجسيد هذه الإرادة؟ جميع الحكام يحكمون باسم الشعب، ويطلبون منه الذهاب إلى النوم وتربية الأطفال وانتظار الاستدعاء في حشود لتحيي الديكتاتور أو تؤازره في معارك مع أعداء في الخارج والداخل.
مصر كانت مبارك وقبله السادات وناصر، توحّد يجعل الحاكم بديلاً للبلد. يمنح الحاكم للبلد معناه، ونظامه السياسي. النظام يشبه الرئيس، لا العكس.
هنا السياسة تسير في اتجاه واحد. ديكتاتور في قصره يفرض كل شيء، ويحرك كل شيء بتوجيهاته، والشعب خارج الشرفة يطلب. طلب مؤدب تسمعه فقط أجهزة التنصت والاستخبارات. همس قد يعكر صفو الديكتاتور، أو يقلق راحته إن تحول إلى «زومة»، أو احتقان قد يؤدي إلى خروج القطيع عن اتفاق الانتظار. الشعب دائماً في حالة انتظار.
II
لم يكن غريباً أن ينتظر الجيش من الشعب تحقيق جمهوريته الجديدة. من سيصنعها إذا لم يكن للثورة أداة سياسية سوى الضغط بالميدان و«المليونيات». الجيش لم يغادر عقل النظام القديم، وتصور أنه انفرد بغرفة الأقدار وحده من دون الرئيس، وتعامل مع إرادة الثورة على أنها مطالب، مجرد مطالب سينفذها حسب إيقاع يضمن له السيطرة على إدارة البلاد، والعمل في هدوء لتجهيز مرحلة انتقال للسلطة تحافظ على موقع للمؤسسة العسكرية في صلب الدولة، وتحجز الثورة عند حدود بعيدة عن المساس بالمصالح الكبرى للمؤسسة.
في الفكرة بعد أخلاقي: الجيش يريد أن يدخل التاريخ وينقل مصر إلى العصر الديموقراطي.
إرادة من أعلى، واستمرار للعقلية القديمة أن الدولة تسقط من أعلى ولا تبنى من أسفل، الجمهورية الجديدة، رغم ديموقراطيتها، مثيرة للقلق والهواجس ولكل أمراض الانهزام والعجز وانعدام الثقة.
لا يداري الجيش أبويته، ولا يخفي قطاع من الشعب اليتم، بل إن تشكيلات معارضة تعيش حالة يُتم غير معترف بها منذ رحيل مبارك. معارضة أيتام مبارك تدرّبت على اللعب في الحديقة الخلفية. أقصى طموحها الهتاف بسقوط الرئيس، ولم يكن هتاف السقوط متاحاً إلا بعد موجات الجسارة التي بدأتها «كفاية»، وطوّرتها «6 أبريل»، ووصلت عبر الخيال الحر إلى إسقاط النظام عبر تنظيم غير مرئي كسر الطوق الأمني، وكوّن وحدته عبر فضاء الإنترنت.
خيال دفع الأجسام للنزول إلى الشارع، ومواجهة آلة حماية الرئيس مباشرة، في معادلة حياة أو موت، تحولت معها فكرة التغيير إلى قوة مادية، كسرت رقبة النظام وفتحت مسرح السياسة إلى الملايين، لكنها لم تصنع ذراعها وأقدامها، وقبلهما عقلها السياسي، بعد.
ولهذا تسود الثورة مشاعر الانتقام وحالة الهياج على اصطياد رموز النظام المخلوع، من الرئيس وعائلته إلى أصغر مدير في شركة حكومية. الانتقام يقابله تدليل من الجيش لهذه الرموز. بحث عن أشكال قانونية، ورغبة في احترام رئيس يصفونه بالسابق، كأنه غادر موقعه بمزاجه لا بعد حرب أوقفت ماكينات حمايته ببسالة مدهشة.
الجيش يدير بمنطق السيطرة، والشعب يريد الخروج عن سيطرة النظام القديم، وهنا تتقاطع الرغبات، وكلاهما من دون جسم سياسي؛ الجيش بخبرات الجمهورية الأبوية، والشعب لم يكوّن خبراته خارجها. ولهذا عاد الشعب إلى حالة الانتظار.

III
الانتظار بعد الثورة أكثر ألماً وذعراً. الشعب يخاف من عودة الأشباح، وتحطّم النظام أثار غباراً كثيفاً، يشبه فعل الزلازل، ويفجر مخاوفه. هل ستعود مصر بعد الثورة إلى الاستقرار؟ الديكتاتور راهن على أن الفوضى قدر مصر من بعده، فوضى تطيح التوازن القائم من قهر حذاء فوق رقبته، ليس صمتاً ولا سعادة، ولكن قلّة حيلة، وعجز، واستكانة، لم تعد موجودة كما لم يكن الاستقرار موجوداً إلا بمعنى استقرار المرتعشين، مهانة وقبولاً بالذل.
جمهورية مبارك ناعمة في استبدادها، شرسة في فسادها. أوهمت قطاعات عريضة أن العصابة التي تقهرهم هي التي تحميهم. مفارقة تضع الشعب أمام خرافات هندس حياته بناءً عليها.
الجيش يريد الانفراد بالهندسة الجديدة، معتمداً على رصيده الأبوي، وعلى امتلاكه القوة والسلطة، ومحبة راسخة من الشعب. وكلها حسابات لا تلبّي طموحات الثورة، وإن كانت تحاول التوفيق بين الثورة والنظام.
الجيش لا يريد الحكم. هذا ما سيحدث في غالبية الأحوال، لكنه لن يغادر موقعه، وهذه هي المعادلة الصعبة. كيف يكون للجيش موقع في دولة ديموقراطية؟ ليس مستحيلاً، لكنه صعب، وخصوصاً أن للجيش مخاوف أخرى من انشقاقات داخلية أو من صدام مع الشعب، أو من انفلات الوضع في البلاد إلى حدود خارج السيطرة.
المخاوف تدفع الجيش إلى تحويل الثورة إلى مجموعة مطالب. وبدلاً من أن تكون ثورة حريات، تصبح هوجة مطالب، ومن هنا يبني جسراً إلى ديكتاتورية جديدة. الثورة إرادة وليست مجموعة طلبات بتحسن الأوضاع أو بمحاكمة انتقامية لرموز جمهورية التسلّط، وإن كان للمحاكمات بعد رمزي مهم، إلا أنها ليست كل شيء، ولا عودة الأموال المنهوبة هي أسمى الأهداف. الثورة إرادة بناء جمهورية جديدة، وإن غابت الإرادة وتحققت كل المطالب، فنحن أمام مشروع جمهورية تسلطية جديدة، يعود فيها الشعب إلى مواقع المتفرجين، إلى فقرات السحر والشعوذة التي يطل بها الديكتاتور من شرفته.