«رأفت الهجّان» هو الاسم الفنّي لرفعت الجمّال، الجاسوس المصري الشهير، الذي ادّعت ندوة إسرائيلية أنه كان «عميلاً مزدوجاً»، معروفاً باسم «يتيد». وكتب معلّق الشؤون الأمنية في «هآرتس»، يوسي ميلمان، أنّ قضية «يتيد»، التي كانت محور محاضرة أُلقيت مساء الثلاثاء في مركز التراث الاستخباري، مثّلت بحسب قوله، إحدى عمليات الخداع الأنجح في تاريخ الاستخبارات الإسرائيليّة. عملية بدأت عندما ألقي القبض على عميل أُدخل إلى إسرائيل في الخمسينيات مُرسَلاً من الاستخبارات المصرية، ثمّ وافق لاحقاً على التعاون مع تل أبيب، ليصبح «عميلاً مزدوجاً»، نُقلت بواسطته الى المصريين معلومات كاذبة. وكان الاسم الشيفري الذي أُعطي للعميل، ثم للعملية كلها «يَتيد» (وتعني الوتد).
بدأت القصة، وفق رواية «هآرتس»، بتجنيد رفعت الجمّال للاستخبارات المصرية، بعدما تورط مع القانون وعُرض عليه في مقابل عدم محاكمته أن يكون جاسوساً. وفور موافقته، خضع لسلسلة تدريبات اشتملت على زيارات كُنس من أجل معرفة الدين اليهودي. وبعد إعداده، انتحل هوية مختلقة ليهودي مصري اسمه «جاك بيطون».
في بداية 1955، أبحر الجمّال (بيطون) من الإسكندرية الى إيطاليا حيث مكث وقتاً ما، وعمل فيها من أجل تعزيز ساتر التغطية. وفي النهاية هاجر الى إسرائيل، حيث كان يتعين عليه، بحسب خطة طموحة أعدها مُشغّلوه، أن يندمج في المجتمع الإسرائيلي. ومن أجل ذلك، زودوه بمبلغ كبير من المال استثمره في وكالة سفر «سي تور» في شارع برنار في تل أبيب. وتتابع «هآرتس» روايتها لقصة «الهجان»، فتقول إنه تحت غطاء السفر للعمل، أكثر الجمّال/ بيطون الخروج إلى أوروبا للقاءات مع مُشغليه في الاستخبارات المصرية. هذه الأسفار أثارت الشكوك لدى شريكه، الدكتور ايمرا فريد، وهو من رجال المؤسسة الأمنية المتقاعدين. شكوك فريد وصلت إلى مسامع أعضاء من «الشاباك»، فوجدت لها آذاناً مصغية. لم تهمَل الشكوك، بل أولاها «الشاباك» الأهمية المطلوبة، وخصوصاً أنها صدرت عن شريك الجمّال، الذي من المفترض أنه مطلع على أوضاعه المادية تحديداً والتي لا تتيح له تمويل هذه الرحلات إلى الخارج، وفق ما نُقل عن فريد الذي قال «من أين لمهاجر جديد المال، فيما عملنا لا يُكسب أبداً؟».
في أعقاب هذه الشكوى، وُضع «بيطون» (الجمّال) تحت المراقبة التي استمرت بمساعدة الموساد في الخارج أيضاً، حيث شوهد يلتقي مشغّله المصري. ومع عودته الى إسرائيل، قبض «الشاباك» في المطار على الجمّال ووضعوه بين خيارين: إما المكوث في السجن عشرات السنين بتهمة التجسس، وإما الموافقة على أن يكون عميلاً مزدوجاً. وبحسب «هآرتس»، اختار «بيطون» الخيار الثاني، وكان مشغّله الأول شلومو غولند، وبعد عدة أشهر نُقلت مسؤولية تشغيله إلى دافيد رونين. ومن أجل تثبيت الثقة به عند المصريين، صوّر «بيطون»، تحت رقابة وثيقة من رجال «الشاباك»، قواعد للجيش الإسرائيلي، وجنوداً في محطات وشعارات وحدات ونقل المعلومات الى المصريين. وينقل ميلمان عن مُشغّل الجمال، رونين، قوله إن «المعلومات التي نُقلت كانت غير سيئة البتة من وجهة نظر المصريين، في ظاهر الأمر»، ولهذا رأوه أحد أفضل عملائهم. وفي إحدى زياراته لأوروبا سنة 1963 التقى امرأة ألمانية، تزوجا وولد لهما ابن.
كانت ذروة عملية «يتيد»، بحسب ميلمان، نقل معلومات كاذبة الى المصريين في 1967، قُبيل حرب الأيام الستة، عندما نقل «بيطون» الى المصريين معلومات تفيد بأنه بحسب خطة الحرب التي حصل عليها من مصادره، ستبدأها اسرائيل بإجراءات برية. وكان هذا، بحسب «هآرتس»، تضليلاً من الطراز الأول، يمكن أن يساوي في قيمته «حملة القطع» (وهي خداع الاستخبارات البريطانية اللامع زمن الحرب العالمية الثانية، في ما يتعلق بمكان نزول قوات الحلفاء وقت غزو أوروبا في 1944).
وتضيف «هآرتس» أن المعلومات المضللة لـ«بيطون» كانت أحد الأسباب التي جعلت مصر غير مبالية جداً قُبيل الحرب وتركت طائراتها مكشوفة لأنظار الجميع على مدرجاتها في المطارات، وهو الأمر الذي سهّل على سلاح الجو الإسرائيلي القضاء عليها في ثلاث ساعات، وبهذا حُسمت المعركة بقدر كبير في واقع الأمر.
وتعليقاً على أهمية دور «بيطون» في حرب الأيام الستة، قال أبراهام أحيتوف، الذي كان زمن تشغيل «بيطون» رئيس الشعبة العربية في «الشاباك» ورئيساً للجهاز في الثمانينيات، «وفّر علينا (بيطون) دماً كثيراً، كان تشغيله يوازي قوة فرقة». وتضيف «هآرتس» أنه بعد حرب 1967، انتفت الحاجة الى بيطون، فضلاً عن أنه كان مُتعباً أيضاً من التوتر اليومي لعمله السري، فأصبح عصبياً وأخذت تكبر مطالبه المالية من الدولة، فاستقرّ الرأي على قطع الصلة به وإعادة تأهيله. لهذه الغاية، دبّرت المؤسسة الأمنية أمر دخوله في شراكة مع رجل أعمال إيطالي، مثّل شركة نفط نقبت قبل الحرب في سيناء وأصبحت حقولها تحت السيطرة الإسرائيلية. لكن هذا لم يكن كافياً لـ«بيطون» وطلب ملايين الدولارات في مقابل خدمته التي استمرت 12 سنة.. وأخذت علاقته بمشغّليه من «الشاباك» تتدهور.
وعن نهاية حياته، كتبت «هآرتس» أنه بعد ذلك بوقت قصير أُصيب بالسرطان. عولج في مستشفى في اسرائيل لكنه ارتاب في أن رجال «الشاباك» سيحاولون تسميمه، ولهذا طلب نقله للعلاج في أوروبا. استجاب «الشاباك» لطلبه وعولج في مستشفى في ألمانيا ومات هناك.
وختمت «هآرتس» تقريرها بالإشارة إلى أن الجمال دُفن في مصر، وقالت إن الإسرائيليين ظلوا يحافظون على صمت تام. ونقل ميلمان عن رئيس «الموساد» و«الشاباك» في مطلع التسعينيات، أيسر هرئيل، قوله له، تعقيباً على الرواية المصرية للقضية، «ليفرحوا، وليظلوا يصدقون حكايتهم».



«لسعة النحلة»


إن الشخص الأكثر مماهاة من أي شخص آخر مع العملية، والذي كان لمدة ست سنين مُشغلاً لـ«يتيد» (الصورة) هو دافيد رونين الذي أصبح بعد ذلك نائب رئيس «الشاباك». لكن المفاجأة الكبرى تمثلت في أنه ليس هو من ألقى المحاضرة في مركز التراث الاستخباري عن الجمال. وقال رونين أمس إنه لا يعلم لماذا لم يُدع إلى إلقاء المحاضرة، وإنه لم يأت لاستماعها احتجاجاً على ذلك. قد يكون سبب تجاهله هو غضب «الشاباك» المستر عليه، لأنّه تجرأ قبل سنين على التلميح الى القضية. ففي التسعينيات، نشر رونين رواية عنوانها «لسعة النحلة» (قصة عميل مزدوج)، فيها تلميح الى عملية «يتيد». وقبل خمس سنين، ألّف كتاباً في هذا الموضوع، لكن «الشاباك» والموساد أيضاً عرقلا نشره طالبين إجراء تعديلات عليه.