السنوات مرَّت منذ ذلك التاريخ بسرعة مقلقة. ينظر المرء إلى ماضيه بعين متعبة. ذكريات كثيرة راكمتها الحياة على هذه الرقعة. كان ذلك اليوم علامة فارقة؛ قسّم السنوات إلى ما قبله وما بعده. حينها خرج عشرات الآلاف مندّدين بقرار حكومة إسحاق رابين «اليسارية» مصادرة 21 ألف دونم من أراضيهم. المتضرّرون كانوا قسماً صغيراً، لكنّ الهم الجماعي، وخسارة الإنسان للأفق، أيقظا في الناس شيئاً لم تحسب الدولة العبرية له حساباً، فكان «يوم الأرض». أعلن الناس الإضراب. اتُّخذ القرار في 30 آذار عام 1976. حاولت السلطات قمعه، فاقتحمت القرى ليلاً. كان ذلك الإضراب وما سبقه خيبة أمل لسلطات الاحتلال. فقد اعتقدت الحكومات الإسرائيلية أنَّ «هؤلاء العرب رُوّضوا» بعد صدمة النكبة وضياع «الحلم العربي»، مع غياب جمال عبد الناصر، وقبضة الحكم العسكري على فلسطينيي الـ48، الذي دام ما بين عامي 1948و1966. لكنّ الخروج في حينه إلى الشارع كان تعبيراً عن أنَّ شيئاً ما لا يزال حيّاً، لم تقتله الحواجز ولم يمحه الترهيب اليومي. راسخ كالأرض تماماً.
الثلاثون من آذار صار علامة مسجّلة. الطقس، كما كل شيء في ذلك اليوم، لم يكن متوقعاً. تسطع أحياناً الشمس (كما أمس) لترتدي الذكرى رومانسية الربيع، وأحياناً أخرى تُمطر بغزارة «الخير»، كما يؤمن عاشقو الأرض، لتفوح رائحة التراب من الكروم المقابلة.
الذكريات الأولى في أوائل ثمانينيات القرن الماضي. كانت ناراً تشتعل في الأفق. المطر لا يوقف البشر عن النزوح إلى الشارع. لا شبكات اجتماعية ولا فضائيات تقدر أعداد المتظاهرين. ومنذ ذلك الحين، في كل عام تتجمع الحشود في قرية من قرى مثلث «يوم الأرض» (عرابة وسخنين ودير حنا). تحمل ما تيسّر من ذكريات أخرى، وتهتف صرخة واحدة تصل إلى أبعد من قمم التلال المجاورة. أحياناً، في نهاية المسيرة، يرفع أحد المتظاهرين العلم الفلسطيني حين كان العلم ممنوعاً إطلاقاً.
السير نحو الحاضر يمضي متثاقلاً. الذكرى التي كانت ناراً هدأت بعد توقيع اتفاقية «أوسلو». تغيّرت المعايير كلها، وشيء ما ضاع هناك في خطاب بعض القياديين الذين اقتنعوا بأن «العدل قام، حقاً قام». صار «يوم الأرض» مجرّد ذكرى. يمشي فيه نشطاء الأحزاب. ولكن الذكريات وحدها لا تحيي الحاضر.
مع ذلك، فإن الدولة العبرية واصلت التضييق باسم القوة. و«يوم الأرض» صار أياماً. واندلعت الانتفاضة الثانية، وعاشت الأقلية الفلسطينية أحداث هبة تشرين الأول 2000. وتواصلت مشاريع تهويد الجليل إلى هدم البيوت في النقب ويافا واللد والرملة.
من عام إلى آخر وسياسة التضييق والحصار تقوى. قرية العراقيب في النقب تهدّم أكثر من مرّة، فضلاً عن عشرات البيوت التي هُدّمت في اللدّ والرملة والجليل باسم البناء غير المرخّص. لا أفق للمكان، ولا تراخيص للبناء. منذ 1948 لم تُبنَ مدينة أو قرية عربية واحدة. ومن يبن من دون ترخيص يتحول إلى «مخالف للقانون» ويُهدم بيته. وآخر الصيحات كانت من الكنيست الإسرائيلي الذي صوّت إلى جانب قانون يقول إنَّ صاحب البيت عليه أن يدفع تكلفة هدم بيته. القضية لم تعد قانوناً. إنّه جنون القوّة.
«الحيّز قوّة»، قال الفيلسوف ميشيل فوكو، لكنَّ منظريّن آخرين قالوا إنَّ خسارة الحيّز تخلق شيئاً ما في نفوس الخاسرين. إسرائيل تضيّق على الفلسطينيين؛ استيطان وهدم وحواجز في الضفة الغربية وحصار في غزة. لكنَّ هذه الممارسات، رغم الخسارة، تعزّز الانتماء والهوية. فالذي خسر بيته يجد نفسه متحدثاً باسم الانتماء. خيام الاعتصام المعرضة للهدم تحوّلت في الآونة الأخيرة إلى نيّات اجتماعية وسياسية، فيها ما يُثير من الوعي وتقاسم الهّم الجماعي. كانت الذكرى في اللدّ التي شارك فيها الآلاف علامة على هذا، فهذه الجموع قلّما عرفتها اللد في الماضي، لكنَّ سياسة هدم البيوت جعلت الهمّ مشتركاً والانتماء قيمة.
إنّ مشهد البيت المهدوم صادم ومؤلم، حين تختلط الحجارة بالذكريات، لكنَّ في كومة الحجارة قصة قوية، تعزّز رواية الشعب. هذا ليس شعاراً، بل حقيقة. إنَّ الانتماء إلى البيت والأرض يتعزّز بعد الهدم. سياسات التضييق والإغلاق والحواجز تذكّر الناس يومياً، مع خروجهم إلى العمل وزيارة الطبيب والذهاب إلى التسوق، بأنّهم فلسطينيون.
أمس كان مليئاً بالمسيرات، في النقب والجليل وحيفا وغيرها من المناطق. الآلاف شاركوا. عادت الذكرى الخامسة والثلاثون لتحمل هموماً أخرى وضيقاً أعنف، لكنّها عادت بجيل جديد يضع أكاليل الزهور على قبور شهداء صورهم نادرة، لكنَّ أسماءهم منحوتة على نصب تذكاري في مدينة سخنين التي دفعت نصيبها من الموت أيضاً.
إضراب عام وشامل عمّ القرى والمدن العربية في الداخل، وخاصة في مثلث يوم الأرض، سخنين وعرابة ودير حنا. وجرت فعاليات أقرّت في عدة مناطق، بينها اللد والعراقيب في النقب والمسيرة المركزية في عرابة البطوف من أجل معركة الدفاع عن الأرض. وزارت الحشود العربية أضرحة شهداء يوم الأرض في كل من سخنين وعرابة وكفر كنا، ووضعت أكاليل الزهور على النصب التذكاري للشهداء.
الحال الفلسطينية السياسية مهترئة، وقد يخالها المرء عاجزة، لكنّ الصراع بين سلطتي غزّة ورام الله، كما المحاولات الإسرائيلية لقمع الذكرى، لم يقتل الأمل الكامن فيها. فالزيتون يعيش آلاف السنين.