جريمة من نوع جديد
هناك أمور من الصعب فهمها، ربما بالنسبة إلينا نحن الواقعيين، القابعين تحت نير الفكر المنطقي (أو هكذا نعتقد)، أما بالنسبة إليهم هم الافتراضيين؟ فهي عادية وطبيعية جداً، أكثر مما يمكن أن نتصور أو نحتمل.
كأن يحب شابّ ما فتاةً ما، عبر عالم ما، لا يشبه عالمنا بشيء، إلّا بكونه يربط بين عوالم مختلفة في عالمنا هذا، وهما ليسا غريبين أحدهما عن الآخر (ربما لو لم تسر الأمور لتصل إلى ما هي عليه اليوم، لكانا التقيا فعلياً).
إنه ذاك العشق الذي يشعر الواحد معه بأنّه يمتلك جزءاً من المكان الذي عشقه، يعشق الإنسان والمكان بشخص واحد ومكان واحد، ولو امتدت المسافات، ولو كان عبر شاشات مربعة تحمل فيها صورة الأحباء أياً كانوا، يكون حقيقياً رغم صعوبة تصديقه.
شخصياً، ما كنت لأصدق أنّ أمراً كهذا واقعي إلى هذه الدرجة، لكنني أفعل اليوم عندما أرى كم من الغائبين يزورون فلسطين عبر شاشات الحاسوب، يزورون يافا وحيفا وعكا والناصرة، ليفطروا في القدس ويتغدوا في رام الله، وقد يشعرون بالحيرة حول طبق «التحلاية» فإما كنافة نابلسية، أو ربما قليلاً من فاكهة الجليل أو برتقال يافا (لتكون «التحلاية» صحية)، وهم يدركون أنّه لو تسنى لهم الوقت، لتناولوا الطبقين، ثم قد يعودون في المساء لتناول وجبة عشاء فاخرة في غزة على شاطئ البحر. اليوم أعتقد أني قد أصدق عشقاً يأخذ منحنىً جغرافياً.
صديقتي تلك وصديقي ذاك هما من هؤلاء العاشقين، هو يحب فيها فلسطين، وهي تعشق فيه جميع الغائبين، ويجمع بينهما حب حقيقي في عالم غير طبيعي، يصح أن نقول عنه إنّه وهمي!
ولكي اختصر لكم ما لا يهمكم بالضرورة، فقد افترق العاشقان على عهد بالحب والحياة نكاية بالاحتلال الذي فرّق بينهما، على أمل اللقاء في مكان آخر، أو ربما في عالم آخر، أو حياة أخرى. ومن يدري ربما حينها سيلتقيان فعلاً. أما نحن الواقعيين القابعين تحت نير الفكر المنطقي في عالم غير منطقي، فحريّ بنا أن نضيف هذه الجريمة الجديدة للاحتلال إلى لائحة جرائمه بحق شعبنا: تفرقة العاشقين ومنعهم من أن يعشقوا وحرمانهم من حق أساسي باختيار من يرغبون بسبب البعد الجغرافي القسري!
أنهار حجازي ـ الجليل

■ ■ ■

ممنوعة

ليست لديها أجنحة لتطير. هي ليست فراشة. يداها بالأغلال مقيدتان ليس لأنّها تخشى أن تمسك بهما سكيناً فتقتل، فهي ليست بقاتلة، بل لأنها رقيقة مثل نسمة صيفية باردة قد تلفح وجهك وأنت تتمايل بين أضرحة الشهداء ساعة الغروب. عذبة كلحن عود يتردد صداه بين أزقة القدس العتيقة. عاشقة، أحبت فأمسكت القلم ورسمت أشياء لا تشبه أي شيء، ثم أهدتها لمن تحب. قالت سأنجب لك طفلاً يرسم الشجر والحلم وفلسطين، لن يرسم البندقية لأنّه حينئذٍ سيصبح السلاح للزينة لا أكثر، غداً لا وقت للحزن. وخيّم الصمت على المكان فرمت برأسها فوق صدره، فأحسّ بدفء دموعها. ثم تمتمت «سأسمّي ابني باسمك وسيشبه الرسم والشجر والحلم وفلسطين والبندقية».
وفي الصباح مشت إلى جانبه وتشابكت الأنامل، فتسلل الدفء والطمأنينة إلى قلبي العاشقين. سألها عن دموع البارحة فقالت: «بكيت فرحاً! بكيت على الماضي وقسوته وفرحت بك». ثم حلت شعرها من منديله، ولوحت به ففهم من الحركة أنّها إيحاء بأغنية كوكب الشرق: «أغداً ألقاك؟». فأغمض عينه اليسرى ومال برأسه يميناً، كمن يبحث عن صوت بعيد: «علي صوتك بالغنى». ومشى كل في طريقه، واكفهرت السماء، ثم أمطرت زيتاً لزجاً ذا رائحة كريهة، فنبتت الأرض جنداً رسموا الحدود ونصبوا الحواجز. وسقطت الصبية أسيرة بيد العسكر. قالوا الحب زندقة، وصلبوها على شجرة، وزمجروا قائلين: «نحن نعرف الله أما أنتِ فلا». كم هم واهمون. فهي أكثر أهل الأرض إيماناً لو يعلمون. وإن دعت فسيستجاب لها يقيناً. غداً أو بعد غد سينهمر المطر ماء صافياً، فتغسل الأرض من الواهمين وأوهامهم. سيتساقط المطر ندياً على وجه الصبية وتظهر فيه ملامح مريم. ستعانق من تحب وتنفض عنه غبار الحرب ثم ترفع يديها المحررتين وتبتهل إلى ربها: اغفر لهم...
علاء الزعتر