I مبارك أنهى الجمهورية الأولى بدراما فاقعة. بطريرك في قفص الشهوات العائلية. لاعبته غريزة خلود على الكرسي، ومنها استمدت العائلة الروح الشريرة للسلطة. الأم تحالفت مع ابنها الأصغر، المدلل، بحثت له عن طريق مشاكل نفسية تتعلق بالفراغ والثقة بالذات، ولم تكف الوظيفة الكبيرة في بنك لندني، لكنها استمعت إلى نصيحة طائرة من رجل بيزنس يلعب في مليارات مؤسسات سيادية، ويحافظ على مكانته بتوريط العائلة في مشروع أكبر من قدرة البطريرك، وحاشيته كاملة.
الرجل لوح من بعيد بإمكان نقل السلطة من الأب إلى الابن في عملية سهلة. لم يقتنع الأب في البداية، لكن مستشاريه استكملوا نصيحة رجل البيزنس ليترك البطريرك مساحة في الهامش للابن «الذي ظهرت شطارته في عالم المال خلال إحدى الإجازات... فنادى الرئيس سكرتيره متسائلاً: لماذا لا نستفيد من خبرات جمال في تطوير مصر».
شطارة التقطتها مشاعر أب ينفخ في إمكانات ابنه، باعتبارها امتداداً لإمكاناته، وباعتبار الابن صنيعته ويخصه، فإن انبهار مبارك بشطارة ابنه جمال تجاوز الأسطورة العائلية إلى محاولة صنع «عائلة حاكمة» من سلالة مبارك.
لم يتصور مبارك أن أحداً ما سيصل إليه في قصر العروبة. الهتافات وصلت إلى مبارك ليلة تخليه عن السلطة، بينما ابنه جمال يصرخ في الجميع: «٣ أيام فقط وينتهي كل شيء ويُخلى ميدان التحرير».
الهتافات دخلت من الأبواب والنوافذ: «لو ممشيتش الجمعة العصر... راح نجيبك من جوا القصر». جمال طلب ضرب المتظاهرين بالرصاص، حسب الروايات، والجيش لم يسمع، بل عندما سمع الضباط هتاف: «الجيش والشعب إيد واحدة»، تحركت فوهة الدبابة من مواجهة الناس إلى مواجهة القصر.
بعدها بدقائق أعلن عمر سليمان خطاب التخلي عن السلطة، بينما مبارك يحمل حقائبه من قصر العروبة ويرحل كما لم يتوقع، ولا يتخيل. فهو بالنسبة إلى خياله السياسي: منقذ البلاد والعابر بها إلى شاطئ الأمان.
«ملايين في مصر يعرفون من هو حسني مبارك»، قالها في خطاب سجله 3 مرات، بعد تعديلات الابن الحالم بالعودة إلى قلب المشهد السياسي. «سنعود» ردد جمال لكل من حوله، بملامح عصبية، وعلامات سوداء تمنحه سناً أكبر، بينما شقيقه الأكبر علاء يصرخ فيه: «ضيعت أبوك».
غالباً، مشهد الصراع بين الشقيقين لم يحدث كما نقله خيال عاشق لدراما النهايات الملكية، ولا حتى في نسخة أخرى من الروايات تقول إن المعركة كانت بين مبارك وزوجته وابنه، ومحورها الغضب مما فعلاه به.
خيال قد لا يعرف أن مبارك يتعامل مع نفسه على أنه شهيد، وضحية خديعة، أنهت حياته بطريقة تحرمه المجد وتضعه في قائمة واحدة مع لص هارب اسمه زين العابدين بن علي. صدّق مبارك أنه زعيم، ويرى أنه منح الشعب ديموقراطية لا يستحقها، وأن ثروته ليست سرقة، لكنها شطارة الوجود في المنصب.
مبارك شُغل أيام الثورة بنقل ثروته إلى مصارف يصعب تتبعها، والثوار أقاموا حفلات فضح للرئيس قبل أن يصنع مملكته. مبارك مصدوم، جهاز دعايته لا يزال يعمل، يحرك بكتيريا الثورة المضادة، حركة تستدر الدموع وتلعب على العواطف وتتصور أن تغيير الثورة مجرد استبدال طاقم العلاقات العامة في طاولة الاستقبال.
ثورة مبارك على عائلته، نهاية تجعل مبارك شبيهاً بأبطال دراما التلفزيون: رجل عجوز قادته أطماع عائلته إلى الجحيم.
وهذا ليس كل شيء.

II
مبارك قاد الجمهورية الأولى إلى شيخوختها. سعي إلى خلود فشل فيه أسلافه من جنرالات الثورة. هو جنرال حرب، لكنه لم يتعلم السياسة إلا عندما ناداه السادات وتصوّر هو أنه إما سيحصل على منصب كبير في شركة «مصر للطيران»، أو سيصبح ملحقاً عسكرياً في «بلد الاكسلانسات»، وكان يقصد بها لندن كما روى بنفسه.
لم تكن له أحلام سياسية، ولا طموح أبعد من مكافآت معتادة لأبطال الجيش بعد الحرب. السادات يبحث عن جنرال بعيد عن مناطحته في نصر أكتوبر، ومن محافظته نفسها، ومشهور عند الإدارة من دون كاريزما.
كان مشهد بداية حكمه وسط دماء الرئيس الذي اختاره، هو المحرك النفسي لمبارك كي يدير ظهره للجبهة مع إسرائيل وأن تكون السيطرة على المصريين هي جبهته. عاش خلف سدود عالية من الأمن، رغم صورته «تلقائياً وعفوياً، وابن بلد». ظلت السدود تعلو كلما توغل في العمر، وبدا أنه يبدأ حياته بعد الستين، وانتقلت نفسيته من موقع التواضع أو الموظف من دون كاريزما، إلى صورة ترسمها شيخوخة للحكام من رئيس الجمهورية إلى رئيس المؤسسة.
صورة آلهة فرعونية يبدو الإنسان العادي في مواجهتها «قزماً»، لا تكاد العين المجردة تلتقطه.
الشيخوخة لا تملك معدتها الرهيبة أدوات الهضم، وكلما ابتلعت شيئاً زادت ضخامتها. هكذا تضخمت صور المسؤولين في نظام مبارك لتصبح رموزاً تجريدية لا تشير إلى أشخاص بعينهم قدر ما تشير إلى كيان ضخم. ماكينة ابتلاع من الصعب إيجاد بديل لها أو إعادة تصنيعها من جديد.
لهذا سقط مبارك بثورة الشباب... ولا شيء آخر.
سقط بعد سنوات من ترويض الشباب، وامتصاص طاقته الحيوية باليأس والإحباط، والرعب، ليس لدى الرئيس العجوز إلا مزيد من إظهار القوة المفرطة. وإثارة الرعب هنا هي نشوة السلطة الشاعرة بجبروتها وعجزها في الوقت نفسه عن العودة بالحياة إلى البداية.
مبارك لم يغضب من جمال، كما تقول الحكايات، هو يريد نهاية تليق بتقاليد جمهوريته: الخلود.

III
مبارك يحتضر على سريره، في منتجع شرم الشيخ، وتدور حول مكان إقامته مدمرة بحرية، وحوله موظفو بلاطه، وبعض حاشيته، وعائلة طردت من فردوسها. هو آخر سلالة جنرالات «العناية الاستثنائية»، يبحث كل منهم عن «مهمة» هبط من أجلها أو بشرعيتها على كرسي الرئاسة.
لا يغادر الكرسي لأن مهمته في العادة لا تنتهي، والوضع الاستثنائي يستمر، مبرراً شرعية الخلود على الكراسي.
«إلى جنّة الخلد»، عبارة كتبها المصريون على جدران البيوت في وداع الرئيس جمال عبد الناصر. ظلت العبارة على جدران البيوت سنوات طويلة، مرفقة برسم للرئيس وهو يطير بأجنحة الملائكة إلى السماء. آخر بقايا الجنازة التاريخية لافتقاد زعيم مارس أبوّته في عقد الستينيات، وظلت الجماهير متمسكة بهذه الأبوة رغم الهزيمة في ١٩٦٧.
أنور السادات كان زعيماً بمعنى مختلف. لم تكتب له عبارات الخلود على الجدران. كاريزماه لها طبيعة نجوم السينما، وصناع الصدمات الكهربائية، كاريزما عشاق المتع لا الأبطال المستعدين لتقديم تضحيات، وعشّاقه سجلوا على قبره المجاور للجندي المجهول: «عاش ومات من أجل السلام».
وحده حسني مبارك حقق الخلود. لم يحكم بكاريزما الزعماء الملهمين ولا زعماء الصدمات السياسية؛ موظف، تكنوقراط، مغرم بالطيران تحت الرادار. تخطى السن المحتملة للرئيس في مصر. انتصر على الجميع. أجنحة سلطته تتصارع بعيداً عنه، لكي تبقى فقط بجوار عرشه الجمهوري.
الرعب سر وجود جمهورية مبارك، وموظفوه مثله عجزة تثيرهم متعة السلطة والثروة، سرّ استمرارهم في الحياة هو رغبتهم القصوى في المزيد. وإن ابتعدوا عن السلطة ومناطق الثروة يوماً واحداً، فستتساقط أجسادهم، وربما ماتوا.
ولهذا يحتضر مبارك بعيداً عن مواطن لذته، حيث لم يعد قادراً على إثارة الرعب في أطفاله... شعبه، ولا على شحن بطاريات توليد طاقته على الحياة بإثارة الرعب في الأجيال المتمردة، والإمعان في تأكيد شعور أن المصريين يساقون إلى أقدار سياسية، وتسريب يقين بأن الشعب المصري لن يستطيع الإفلات من قبضته.
مبارك قاد عجزة تُشحن طاقتهم يومياً بممارسة القهر، يستمتعون بمشاعر الغضب والإحباط والتشاؤم. هذه هي المنشّطات التي تجعلهم مستمرّين في الحياة.

IV
في انتظار المذبحة، عاش ثوار التحرير أياماً قاسية. تلوح في الذاكرة مذبحة الميدان السماوي في الصين، والوحوش الجائعة التي يطلقها أباطرة الرومان على شعوبهم. أطلق مبارك الوحوش على الشعب، ليكبت الغضب من جديد في القلوب.
أشباح الرعب ظلت تطارد الثوار وتشعرهم بأن الطريق إلى التغيير لن يكتمل، وسيتخلد ميدان التحرير بمذبحة لا بثورة، وعندما وقعت الثورة، انفجرت الاحتفالات، لكن بكتيريا تربت على الرعب عادت للقفز، والإيحاء بعد 3 أيام فقط من نجاح الثورة في إزاحة مبارك، بأن كل شيء سيعود، والجيش سيأكل الثورة، ومبارك سيعود في صورة جديدة. وبقيت الأشباح تنتظر الفرح على الأبواب لتعيدها إلى دائرة الرعب.
وساعتها سيكون مبارك قد عاد فعلاً.