معمر القذافي نموذج غريب للحاكم العربي. لا نظير له، ويحتاج إلى روائي كبير من طراز غابرييل غارسيا ماركيز كي يساعد على رسم بورتريه روائي عنه. هو مزيج من ديكتاتور ماريو فارغاس يوسا وجنرال غبرييل غارسيا ماركيز في متاهته. وإن كان من إنجاز له، فهو سباحته في بحر ليبيا، على مدى أكثر من أربعين سنة. ويبدو أن الشبيبة إن أخطأته هذه المرة، فستأخذه المَنونُ. لكن الخوف، في هذه الحالة، كبيرٌ من خطر التوريث، ومن هنا خشية الليبيين، من التلكؤ في إرسال هذا الطاغية إلى تقاعده الأخير.
كل بلد عربي ابتلاه الله بحاكم مختلف، وليبيا لم تشذّ عن القاعدة، ولعل الأخبار التي تأتي من هناك تكون في معظمها مثيرة للضحك والسخرية، لكنها تعني بالنسبة إلى الليبيين أشياء أخرى، أي القمع والقهر المستمر منذ أكثر من أربعين سنة. والذي يتتبع مسيرة هذه الشخصية الروائيّة لا يمكنه الإمساك، بدقة، بزمام تصرفاته وطرق تسييره لهذا البلد العربي. ويبدو أن عقدة الزعيم الليبي سببها الرئيسي هو سكان ليبيا القلائل، فهو كان يتمنى لو أنه يدير بلداً بحجم سكان مصر، وبالإمكانات النفطية التي تنبع من أرض بلاده.
نزوات القذافي أدت إلى كوارث في ليبيا حتى وجدت بلاده نفسها مُحاصرة، ليس فقط من الدول الكبرى، بل حتى من جانب الجيران العرب. فلا بلد عربي، كمصر وتونس والجزائر، استطاع تسيير رحلة جوية، حتى لإنقاذ أطفال مرضى، في حين أن دولاً جائعة من أفريقيا السوداء أرسلت طائراتها لكسر الحصار، بسبب قضية لوكربي، وهنا أعلن القذافي في تصريح شهير له تخليه عن القومية العربية، والعودة إلى الأفرقة. ولا يزال العقيد في هذا المسار الأفريقي حتى عيّنته قبائل أفريقيا ملكاً لملوك أفريقيا، في مشهد فولكوري يليق به.
تصرفات ومواقف وسياسات خارج السياق دائماً، جعلت الكثير من الساسة الأجانب لا يأخذون الأمر بمأخذ الجد. ولا يبدو أن القذافي سيغير سياسته وتصرفاته، فها هي واحدة من بهلوانيات العقيد، المتمثلة في قراره التظاهر مع المتضررين من حكمه ضد حكومته. «فيه الخصام وهو الخصم والحكم».
كيف استمر الرجل في السلطة، في حين أن رفاقه انزووا في صمت مدمر ومهين، وخصوصاً عبد السلام جلود، الرجل الثاني؟ يجب الاعتراف بأن معمر القذافي لا يشذ عن قاعدة الحكام العرب، الذين تمتلئ أياديهم دماً. فقد أظهر في البداية نزوعاً ديكتاتورياً وتسلطياً، دفعه إلى استخدام العنف. وبالفعل سال الدم الليبي في ليبيا، فالمعارضات لم تتوقف، منذ الانقلاب/ الثورة. والكثيرون من الليبيين المُسنّين الذين هم بصدد الانقراض قريباً يتحدثون عن ملكية سنوسية مسالمة في منحى صوفي تسامحي كبير، وهو ما سهّل على القذافي الانقضاض عليها وتنفيذ انقلابه العسكري «الثوري».
مارس القذافي شعاراته خلال فترات طويلة، واستطاع خداع الكثيرين في الداخل والخارج، وبدا كأنه زعيم ثوري لا يشق له غبارٌ، فانفتح على الثورة الفلسطينية والكثير من ثورات العالم. ولكنه لم يكن قط منسجماً مع نفسه. فتقلُّبُ مزاج الرجل جعله يفقد الصدقية لدى الكثيرين. ويبدو الأمر واضحاً في استقباله للكثير من المعارضين العرب ثم طردهم ما إن تتحسَّن علاقاتُه مع أنظمتهم، إن لم يسلمهم لأنظمتهم، أحياناً. وأحياناً يغيب المعارض العربي في الربوع الليبية، فلا يظهر له أثرٌ. كذلك فإن العديد من زوار الجماهيرية الليبية غابوا فيها أو قتلوا بمجرد الخروج منها (الإمام موسى الصدر زعيم حركة أمل، وفتحي الشقاقي زعيم الجهاد الإسلامي الفلسطينية).
أحياناً يبحث المتتبع عن منطق لقرارات الزعيم الليبي فلا يجده. لعله منطقٌ خاص بهذا الرجل، الذي يمكن أن يكشف، حال عرضه على محلل نفساني، عن حالات من تضخم الأنا ومن ازدواجية الشخصية، تفوق الخيال. ثمة تشابهات بينه وبين حكام عرب آخرين. فكما تعامَل الحكام العرب مع بلدانهم باعتبارها ضيعة شخصية، قام هو الآخر، على الرغم من ادعائه التقشف والإقامة في خيمة، بنهب ثروات ليبيا الكبرى، هو وأولاده وعصابته المقربة. ولعل من يشاء البحث عن كل ثروات الجماهيرية الضخمة، على مدار أربعين سنة، لن يستطيع الإمساك بها ومعرفة مكان إنفاقها. ثروات رهيبة، بلغة النفط، وموظفون لا يتلقون رواتبهم إلا بعد شهور، وحالات بؤس غير مبررة على الإطلاق، وملايين من العمالة الأجنبية تموت جوعاً وقهراً. إن من يزور الجماهيرية (هي لفظة ابتكرها القذافي من بين مبتكراته العديدة، التي يمكن تجميع كِتاب منها!) يكتشف غياب الدولة وتفسخها، وبالتالي سيادة الفوضى، وهي ما سماها القذافي في كتابه الصغير، «الكتاب الأخضر»، باللجان الثورية، التي تُعَدّ عين النظام وعونه وحرسه وجواسيسه التي تنام.
وهذه الفوضى التي زرعها القذافي جعلته يعين نفسه قائداً للثورة، ملغياً، كما يزعم، منصب رئاسة الجمهورية. لكن من يتبع القرارات الليبية لا يمكنه سوى أن يقارن جماهيرية القذافي بِمَلكيّة مطلقة ومستبدة. وحين يخرج المواطن الليبي إلى بلدان عربية أخرى يتعجب من النظام السائد مقارنة بالفوضى الليبية. والحقيقة أن عودة ليبيا إلى الحالة الطبيعية، أي بلد عربي كغيره من البلدان يعرف فيه المواطنون أن ثمة حقوقاً وواجبات، تحتاج إلى وقت طويل. الفوضى «الثورية» سائدة، ولا أحد يعرف متى سيتغير هذا الوزير أو ذاك، لأن القذافي قضى نهائياً على الديموقراطية وعلى الانتخابات وحتى على الشورى. ألَيس الكتاب الأخضر يقول حرفياً: «وما اختلاف الأنظمة التي تدّعي الديموقراطية إلا دليل على أنها ليست ديموقراطية على الإطلاق!». ولكن نفور القذافي من مفاهيم الديموقراطية والشورى والانتخابات، لا يبرئه من كل ألاعيب السلطة. فكل الإشارات تتجه للقول إنه بصدد تعيين ابنه سيف الإسلام رئيساً لليبيا. والتوريث الذي قضى عليه المصريون في ثورتهم، والذي تراجع عنه الرئيس اليمني في خطابه الأخير، ولو إلى حين، يسير على قدم وساق في الجماهيرية.
النمر الليبي ظهرت له تجاعيد وأصبح متعباً. وأخذ ظهوره يقلّ وخطاباته الماراتونية أفسحت المجال لتأملات في خيمته على مصير ليبيا من بعده، بل على مصير عائلته. أصدقاؤه من الحكّام العرب بدأوا يتساقطون كفاكهة ناضجة آن وقت قطافها، ولم يعد بالإمكان وقف السبحة من التناثر. لم يكن من المتوقع أن يدافع القذافي، وهو أمين القومية العربية والمعادي لإسرائيل، عن الجنرال زين العابدين بن علي وكيل إسرائيل وأميركا وفرنسا في المغرب العربي، ولكنه فعلها وبكى في خطاب للشعب التونسي على زميله بن علي. خطاب أهان فيه شعب تونس وثورته، وعاب عليهم طرد الديكتاتور الفاسد.
ولأن مسلسل تساقط الديكتاتوريين والطغاة لم يتوقف، فقد تتبع في قلق وحزن ظاهرين مسار إسقاط حسني مبارك، ودافَع عن زميله المصري، من التهم التي طالته وطالت عائلته، وغض الطرف عن ثروة كُدِّست تقترب من 70 مليار دولار، وقال إنه فقيرٌ، وتبرع بأن يستضيف مبارك الفقير ويشتري له ملابس.
نسي معمر القذافي أنه كان يعادي اتفاقات كامب دافيد «الخيانية» ويصف القاهرة بـ«المقهورة»، ومبارك بـ«البارك»، ونسي حتى اتهاماته لمبارك بعقد قمة عربية خدمت للولايات المتحدة، ومنحت شرعية لغزو العراق. وفي كل حركات الرئيس الليبي وشقلباته، لا يبدو أننا أمام زعيم عربي له مسؤولية إدارة بلد وحريص على العباد والبلاد. كأننا أمام شخصية من شخصيات موليير أو رابليه! بل كأننا أمام لويس الرابع، في حكمه المطلق، الذي يستحيل محاسبته. من يتتبع مسار الرجل الذي استطاع التشبث في السلطة، وفق نظريته للديموقراطية، أي «ديمومة الكراسي»، يعجب بسباحته الماهرة، وسط أمواج عتية. لكنّ الحقيقة هي غير هذه. فهذا النظام الذي استفاد من الحرب الباردة، وعبّر خلالها عن شعارات ثورية، وأحياناً ثوروية، من خلال استقباله لأبي نضال وكارلوس والجيش الجمهوري الإيرلندي ومنظمة إيتا الباسكية وغيرها، استطاع أن ينقلب 180 درجة، مع سقوط المعسكر الاشتراكي. وحين رأى القذافي، الحملة الأميركية والغربية تطيح الرئيس العراقي، أدرك أن خياراته ليست عديدة. بل فهم أن الخيار الوحيد يبقى هو التعاون الصريح والمكشوف مع المصالح الأميركية. وهكذا فكك كل مشروعه النووي والصاروخي وسلمه للأميركيين، كما سلمّهم كل المعلومات، بما فيها معلومات عن أبي المشروع النووي الباكستاني، عبد القادر خان، بل وذهبت به المهانة إلى درجة مُطالبَة سوريا وإيران بتفكيك مشروعهما النووي. كل هذا كان من أجل إنقاذ رأسه، وسبق ذلك اعترافه بتفجير لوكربي، على الرغم من شكوك كبيرة في المسؤولية الليبية، ودفع تعويضات خيالية لذوي ضحايا العملية.
من الصعب تعريف هذا الزعيم. هل هو قائد ثورة؟ هل هو رئيس؟ هل هو ملك؟ هل هو تقدمي؟ اشتراكي؟ عروبي؟ أفريقي؟ إسلامي؟ إمام؟ مفكّر؟ مُنظّر سياسي؟ لا يبدو أن تعريفاً واحداً ينطبق عليه؛ لأنه مزيج من كل الأوصاف. يمكن أحداً أن يقول إنها جيدة، فهو شخصية بالغة التعقيد، لكن الشعب الليبي يقول عكس هذا. الشعب الليبي لم يعد يريد سوى أن يعيش ويسافر ويستمتع بثرواته. والكثيرون من الليبيين يغبطون طرق العديد من الدول النفطية العربية في إدارة ثرواتها وتقاسم أرباحها. لقد تعب الشعب الليبي من تحمل عواقب سياسات مفاجئة وغير منطقية، ومن دخول ليبيا في تحالفات مريبة وفي صفقات اقتصادية وتسلح لا تعود بالنفع على بلد غير مهدد على الإطلاق من أحد. لقد انتهت حرب شريط أوزو بهزيمة ليبية أمام التشاد، أفقر بلد أفريقي.
تبقى خسارة القذافي كبيرة أمام شعبه؛ إذ هو من له حق قبول سلطته أو لفظها. وإذا كان من حق المصريين والتونسيين طرد زعيمَيهم بسبب الفساد والديكتاتورية، فإن الليبيين يتساءلون عن مصير مليارات الدولارات من الريع النفطي. إذ من الذي يمنع الليبيين من أن يكونوا مثل جيرانهم غرباً وشرقاً؟ شباب الفايس بوك، الذين سخر منهم جمال مبارك، قبل أن يكنسوه، والذين هدد القذافي بالانتقام من قبائلهم (نعم الثورة الليبية، شأنها شأن النظام اليمني، لم تستطع تفتيت نفوذ القبائل وبناء المُواطَنَة)، قرروا الحراك وبناء بلد جديد، له مكانه الطبيعي في المغرب الغربي وفي أفريقيا.
لقد بدأ الكثير من المصريين يجادلون في مكانة مبارك في تاريخ مصر، ولعل الليبيين لن يجدوا شيئاً كبيراً يكتبونه عن «انقلاب» القذافي، بعد سقوط الملكية السنوسية المسالمة. قد يكون مصيره في أدب شعبي عن شخص مثير للسخرية والضحك، عن «ملك» غريب الأطوار، محاط بنساء شبقات ومثيرات، وهو يحرك يديه المليئتين بالخواتم، وينظر إلى السماء، كأنه يستلهم الوحي والحكمة. ومن المؤكد أن نقرأ في هذه السيرة عن رُوبي (كريمة المحروق) المومس المغربية القاصر (التي اعتنقت المسيحية، بسبب البؤس والرغبة في الثراء) التي أطاحت برلوسكوني، أو تكاد، وهي تقول، في براءة ماكرة، إنها تعلمت رقصة البونغا بونغا (الرقصة الإيروسية الفاتنة) من الزعيم الليبي باعتبارها رقصة ليبية. وسواء أكان الأمر صحيحاً أم لا (حاولت عارضات الأزياء الجميلات اللواتي استقبلهن معمر القذافي وأهداهن مصحفاً ونصحهن باعتناق الإسلام، نفي التجائهن إلى البونغا البونغا لإثارة الزعيم الليبي)، وسواء أكانت هذه الرقصة ليبية أم أفريقية سوداء، فهذا يدل على أن علاقات القذافي المريبة ببرلوسكوني تترك ألف تساؤل، وتبعث على الأسى والأسف، لكون هذا الزعيم الليبي الذي كان واعِداً (حاملاً للأمل)، يوماً، لم يعد له من صديق حميمي سوى هذا الشيخ الذي يعود، باستمرار، إلى صِباه. حقاً لقد سقط القذافي من عل، ولم يعد ينتظر إلا من يُنزله من الشجرة! وأما شبيبة ليبيا فليس لديها، مثل نظيرتها في تونس ومصر، سوى صبر ساعة.


38 جريحاً في بنغازي

وصلت موجة الاحتجاجات على الأنظمة العربية إلى ليبيا، حيث أصيب 38 شخصاً على الأقل في مواجهات اندلعت في مدينة بنغازي بين متظاهرين ضد السلطة ومئات من أنصار الزعيم الليبي معمر القذافي، في وقت حذرت فيه حركة اللجان الثورية أمس من مغبة أقدام أي مجموعة على العبث بأمن ليبيا واستقرارها.
ويأتي تأكيد حركة اللجان الثورية «عدم السماح لأي مجموعة تتحرك في الليل بسرقة مكتسبات الليبيين والعبث بأمن ليبيا واستقرارها، وقيامها بتنظيم مسيرات مؤيدة للزعيم الليبي في عدد من المدن»، رداً على تظاهرة قادها عدد من أهالي ضحايا حادثة سجن بوسليم في مدينة بنغازي، أول من أمس، على خلفية اعتقال منسقها المحامي فتحي تربل، وأدت إلى اندلاع مواجهات بين المحتجين وموالين للقذافي.
وأوضحت صحيفة «قورينا» المقربة من نجل القذافي، سيف الإسلام، أنّ «اشتباكاً لم يستمر طويلاً» دار بين الطرفين بعد إطلاق سراح تربل.
(أ ف ب، رويترز، يو بي آي)