باريس | رياح الثورات التي تعصف بعدد من البلاد العربية لتطيح أنظمة محنطة، لا تمرّ مرور الكرام في فرنسا، بل تنذر بإعادة تقويم شاملة على صعيد مدّ جسور جديدة مع الحكومات المنبثقة والمجتمعات العربية. وتبدأ هذه التغييرات بإبعاد الشخصنة عن التعامل مع زعماء تلك الدول، وخصوصاً أن هذه العلاقات الحميمة كانت تُشبك رغم تحذيرات الأجهزة الأمنية وتقارير السفارات التي حذّرت من «التوجهات المافياوية» لعدد من الزعماء الذين لم تتوقف الشخصيات الفرنسية عن مدحها ومحادثتها عن الديموقراطية رغم تحنطها في الحكم منذ عقود. ما يجري اليوم مع وزيرة الخارجية، ميشال إليو ماري، المتوقع أن يتخلّى عنها الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي هذا الأسبوع بعدما علت أصوات تطالب باستقالتها، ليس «حالة فريدة»، فرئيس الوزراء الفرنسي فرنسوا فييون أيضاً له مغامراته في مصر، وذكرت صحيفة «لو كانار أنشينيه» أن الرئيس حسني مبارك وضع في تصرفه طائرة خلال إجازته العائلية لمناسبة الميلاد الماضي للتوجه من أسوان الى أبو سنبل. وقد اضطر فييون إلى إصدار بيان لتأكيد هذه المعلومة.
ويؤكد أحد العاملين في أجهزة أمن الشخصيات أن عدداً كبيراً ممن رافقهم «استفادوا من تسهيلات وضعها في تصرفهم مسؤولون بإمكان أصغر قاض فرنسي أن يزجهم في السجن لسنوات طويلة إذا رُفعت عنهم الحصانة».
ومطالبة بعض السياسيين باستقالة إليو ماري لأنها «تضعف صورة فرنسا» تبدو مضحكة، إذا ما عُرضت صور المسؤولين الفرنسيين الذين كانوا يربّتون كتف الدكتاتور زين العابدين بن علي، أو يحتضنون حسني مبارك على مدى ثلاثة عقود.
ورغم أنّ دبلوماسياً مخضرماً يشرح أن «التعامل» هو من ضمن البروتوكول الدبلوماسي، فإن «توقيت فعلة إليو ماري كان تعيساً»، بسبب تدافع الأحداث وهروب بن علي، وهي لم تفعل أي شيء لم يفعله أقرانها. وذكّر الدبلوماسي برؤساء الجمهورية الذين كان «لهم مربط خيل في الأقصر وشرم الشيخ»، فساركوزي أمضى أول رأس سنة بعد ظفره بالإليزيه في مصر، حيث وصل في ٢٥ كانون الأول برفقة صديقته كارلا بروني، قبل زواجهما، إلى طابا ونزلا في «أولد وينتر بالاس» الفخم. وتكفّل حينها وزير الثقافة السابق فاروق حسني ببرنامج الرحلة السياحية، قبل أن ينتقل الرئيس الفرنسي من الأقصر إلى شرم الشيخ ويحل ضيفاً في قصر على شاطئ البحر الأحمر في «خليج نعمة». وكان رفيقه في هذه الضيافة وزير الخارجية آنذاك برنار كوشنير، وزوجته مسؤولة الإعلام الفرنسي في الخارج، كريستين أوكرنت.
أما جاك شيراك، الرئيس الفرنسي السابق، فقد زار مصر ٧ مرات خلال أعوام حكمه الاثني عشر، وكان المتحدث باسمه، جيروم بونافون، قد شدّد أمام الصحافة في حينها على «العلاقات الشخصية الحميمة» التي تربطه بمبارك. ويذكر الجميع زيارته في ١٩ و٢٠ نيسان عام ٢٠٠٦، حين صرح بضرورة «ضغط مصر على «حماس» لتغيير سياستها والاعتراف بإسرائيل»، علماً بأن اهتمامه كان منصبّاً وقتها على «الملف اللبناني ودور سوريا فيه» في خضمّ العمل على إطلاق المحكمة الدولية في اغتيال الرئيس رفيق الحريري.
ولوحظ في الأيام الأخيرة أن موقع السفارة الفرنسية في مصر قد «حذف كل صفحات الزيارات الرسمية للمسؤولين الفرنسيين»، ولو لم يفعل لظهر أيضاً ملف زيارات الرئيس فرنسوا ميتران، الذي كان يتردد كل عام على الأقصر. وكان يذكر لزواره أنه «يحب الاستماع إلى ما يقوله مبارك عن أقرانه العرب». ويروي أنه كان «يقلّد حافظ الأسد، بينما يشبّه الملك فهد برجل بخيل قريب من أمواله». وكان ميتران ينتهز كل منفعة تضعها السلطات المصرية بتصرفه: فيطلب مرّة طائرة مروحية لزيارة قمة جبل موسى في سيناء، ومرّة ثانية يوقف المركب الذي يستقلّه للتنقل في النيل أمام قرية صغيرة بين الأقصر وأسوان ليزورها على الأقدام.
اليوم، وقد بدأت الصحافة الفرنسية تنبش «صور ذكريات سياسييها» في الدول التي تنقلب على حكامها المستبدين، وفي الدول المهيأة للثورة، فإن مواقع الإنترنت الخاصة والرسمية تنكبّ على محاولة تنظيف صفحاتها من الصور والمقالات الرنّانة التي كانت تصقل وصف العلاقات الشخصية بين السياسيين، وبين من باتوا منبوذين من شعوبهم، بينما تعكف أجهزة البروتوكول على وضع «ميثاق تعامل جديد» عند الزيارت الرسمية وغير الرسمية وفي مقدّمها عدم «عدم قبول هدايا ثمينة قد يكون مصدرها الغرف من أموال الشعوب».