في الوقت الذي كانت فيه الأحزاب السياسية المصرية تتآكل، بعضها يعيش على ذكريات الماضي وبعضها الآخر مدجن، كانت أجيال جديدة تبحث عن بديل تستظل به للتخلص من حزب حاكم يقبض على البلاد من خلال رئيس يتربع على كرسي الحكم منذ 30 عاماً، يهرم ولا يتبدل.
بديل لديه حصانة ضد ثقافة التدجين التي أتقنها النظام، ولا يحصر معارضته في خطابات أو مؤتمرات صحافية رنانة ليعود بعدها إلى الصمت. بديل يكون قادراً على التماهي مع مشاكل الشعب وتطلعاته، بعدما وصلت الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية إلى درك غير مسبوق، فيما كان النظام بمختلف أركانه وأدواته يمعن في بطش العباد، ويتفرد بحكم البلاد متجهاً نحو إعادة الجمهورية إلى عهد الملكية.
وفي ظل وعي غير مسبوق بين الشبان، وإجماعهم على مصيرية الأحداث التي تواجهها مصر بينما يسعى النظام إلى إرجاعها مئات السنوات إلى الوراء، انبثقت حركات احتجاجية جديدة، لتخطي فشل التجارب الحزبية. مثقفون، محامون، أساتذة جامعات وطلاب، اتحدوا خلف هدف واحد «التغيير». أما البداية فكانت في عام ٢٠٠٤ مع الإعداد لإطلاق الحركة المصرية من أجل التغيير «كفاية»، التي ضمت في بدايتها طيفاً واسعاً من المثقفين يمثلون مختلف وجهات النظر، تصدّرهم النقابي جورج إسحق.
حددت الحركة أهدافها مبكراً، معلنةً محاربتها لفكرة توريث الرئيس حسني مبارك الحكم لنجله جمال، ومؤكدةً في الوقت نفسه أن «الخروج من الأزمة الشاملة والطاحنة، يستلزم البدء في الإصلاح الذي ينهي احتكار الحزب الحاكم للسلطة، ويلغي حالة الطوارئ المفروضة على البلاد وجميع القوانين المقيدة للحريات والبدء فوراً بإجراء إصلاح دستوري».
تحت راية هذه الأهداف، قادت الحركة أولى تظاهراتها أمام دار القضاء العالي في القاهرة في كانون الأول 2004، تلاها تجمع في معرض القاهرة للكتاب وفي ميدان التحرير بالقاهرة، قبل أن تعم تحركاتها معظم المحافظات، بعدما تحدت قانون الطوارئ، مرسلةً أولى إشارات التمرد على الواقع، ما أسهم في التفاف العديد من الراغبين في التغيير حولها.
قدرة الحركة على الحشد ضد النظام سلطت الأضواء عليها، فسارع الأخير إلى خوض معركته ضدها. وبعد حملة من الاعتقالات الواسعة ضد عدد من الناشطين فيها والشائعات التي أطلقت عن ارتباطها بمشاريع أجنبية والخلافات بين قياداتها، دخلت الحركة في تجميد غير معلن لنشاطاتها، إلى أن أصدر سبعة من مؤسسيها في العام الماضي بياناً أعلنوا فيه أنه «في ظل غياب الرؤية الاستراتيجية، جُمِّدت الحركة في مواجهة الواقع المتغير»، قبل أن تعود الحركة لتنشط على نحو ملحوظ، في التعبئة للاحتجات المتواصلة منذ أيام لإسقاط النظام.
وعلى الرغم ممّا واجهته الحركة من صعوبات، إلا أنه يسجل لها كسب أولى النقاط في معركة التغيير بعدما كسرت حاجز الصمت من خلال مسيرتها الاحتجاجية، وخصوصاً في خلال انتخابات ٢٠٠٥، مطلقةً حركة غير تقليدية ضد النظام لتكون بمثابة كرة ثلج ستتدحرج سريعاً، لتنمو من رحمها حركات احتجاجية متعددة برزت من بينها على نحو خاص حركة «6 أبريل/ نيسان الشبابية» الناشطة عبر الإنترنت.
نشأة الحركة للتضامن مع عمال النسيج في مدينة المحلة الكبرى في 2008، المطالبين بتحسين ظروف عملهم، ومطالبتها باستبدال الواقع القائم، جعلت من التغيير هدفاً غير قابلاً للتأويل لمؤسسي الحركة، ومن بينهم منسقها العام أحمد ماهر.
ماهر وأقرانه في الحركة يختصرون أنفسهم بأنهم شباب يحبون مصر، يجمعون على إمكان حدوث عمل جماعي للخروج بالوطن من أزمته والوصول به إلى مستقبل ديموقراطي يتجاوز حالة انسداد الآفاق السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
أما مطالبهم فهي مطالب الـ80 مليون مصري: مرور مصر بفترة انتقالية يسعون إلى أن تكون نقيضاً لسنوات القهر والتضييق التي ولدوا ليجدوا أنفسهم غارقين في دوامتها، مؤكدين أن تحقيق هذا الهدف يتطلب البحث الجيد عن البديل الذي تعمد الحكم السلطوي تغييبه على مدار سنوات طويلة، وإعادة الثقة إلى الجماهير المصرية في كل مكان في إمكان اختيار مصيرها.
وبالفعل، نجحت الحركة في تحقيق ما كانت تصبو إليه على عكس توقعات النظام. فمع إطلاق الحركة، أخطأ النظام في إدراك ما يواجهه. استهان بمحركيها الشبان، ووصفهم بأطفال الفايسبوك. لكنه تيقن مع نجاح دعوتهم إلى الاضراب في السادس من نيسان 2008 إلى أنهم قد دخلوا «منطقته المحظورة»، فكان لا بد من تطويق حركتهم مستخدماً الأسلوب نفسه؛ بث للخلافات، لإحداث انشقاقات، اعتقال وترهيب. لكن لا شي تبدل، فالخصم هذه المرة مختلف. شبان وشابات ينبضون بالحياة ويرفضون سياسة الموت البطيء التي فرضها النظام على الشعب. مثقفون وناشطون لا يطمحون إلى مناصب يمكن أن يسعى النظام إلى إغرائهم بها.
عزيمة لا يمكن كسرها بحملات الإخفاء القسري والاعتقالات والتعذيب. والأهم استخدامهم أدوات جديدة في معركتهم لم يعتدها النظام من قبل، وفي مقدمتها تطويع الإنترنت مواقع التواصل الاجتماعي والمدونات، لتخطي محاولات كمّ الأفواه. نجاح الحركة شجع على بروز رديفات لها تطالب جميعها بالتخلص من النظام، ومن بينها «حركة حرية وعدالة»،«مجموعة كلنا خالد سعيد».... حتى تحولت هذه الحركات إلى محور الحياة السياسية.
في غضون ذلك، أيقنت بعض الشخصيات السياسية أن المرحلة القادمة هي مرحلة الحركات الاحتجاجية، لا الأحزاب. فجاءت عودة المدير السابق للوكالة الدولية للطاقة الذرية، محمد البرادعي إلى مصر في عام ٢٠١٠ ورفضه الانضمام إلى أي من الأحزاب القائمة، ليُنشئ «الجمعية الوطنية للتغيير» في محاولة لجمع المصريين بمختلف انتماءاتهم لتحقيق التغيير في مصر، لتؤكد نجاح الحركات في فرض نفسها نموذجاً قابل للتعميم.
وعندما اختارت هذه الحركات التعاون في ما بينها والدعوة إلى التظاهر في الخامس والعشرين من كانون الثاني الماضي، ثار بركان الغضب الراغب في التخلص من الطوق الحديدي الذي تفرضه السلطات على حياة المواطنين، فعجز النظام عن احتوائهم حتى أصبحت كلمة الفصل لهم. يملأون الشوارع ويرددون برفقة معظم المصريين بلا خوف أو تردد «الشعب يريد إسقاط النظام».



أحمد ماهر

المنسّق العام والمؤسس لحركة «شباب 6 أبريل» التي تأسست في 2008. أدّى دوراً كبيراً في تنظيم تظاهرة حزيران 2010، للتضامن مع خالد سعيد، وتظاهرة الـ25 من كانون الثاني، اعتقل واختطف مرتين





جورج إسحاق

أول منسّق عام لحركة كفاية. يعدّ الخبير التربوي، واحداً من الذين ناضلوا بصمت وبلا ضجيج لجعل الإصلاح مطلباً جماهيرياً، عرف عنه دفاعه الشرس عن ضرورة تعديل الدستور المصري





محمد البرادعي

المدير العام السابق لوكالة الطاقة الذرية، عاد عام 2010 إلى مصر مطلقاً «الجمعية الوطنية للتغيير»، ومنادياً بضرورة إصلاح النظام السياسي في البلاد وإفساح المجال أمام الحرّيات
العامّة





السيد البدوي

تولّى رئاسة حزب الوفد في حزيران 2010، بعد فوزه في الانتخابات على منافسه محمود أباظة. من كبار رجال الأعمال. يمتلك مجموعة من الشركات العاملة في مجال صناعة الدواء بالإضافة إلى شبكة تلفزيون الحياة





محمد بديع

المرشد العام الثامن لجماعة الإخوان المسلمين منذ العام الماضي. ينظر إليه على أنه محافظ، أحجم عن تحدّي السلطات سابقاً. ستلقى على عاتقه قيادة الحركة إلى مرحلة جديدة في حال سقوط النظام





أيمن نور

سياسي ومحام. أسس حزب الغد في 2004 بعد ثلاث سنوات من انشقاقه عن الوفد، خاض انتخابات الرئاسة عام 2005 أمام مبارك وسجن بعد إدانته بتقديم وثائق مزورة لتأسيس حزبه





الأحزاب المصرية: عقود من التدجين... والإقصاء



أتقن النظام المصري تقييد الحياة الحزبية في بلاد الفراعنة، محوّلاً العديد من الأحزاب إلى «ديكور» يستعين به لإضفاء ديموقراطية صوَرية على المشهد السياسي، مستفيداً في الوقت نفسه من ضعف أداء هذه الأحزاب ومشاكلها الداخلية

لا يزال المشهد السياسي المصري في مرحلة ما بعد «ثورة النيل» غامضاً، فبلد الـ80 مليوناً يقتصر عدد الأحزاب المرخصة فيه على 24، يكاد الفاعل منها لا يتخطّى أصابع اليد الواحدة بعدما نجح النظام المصري ضمن استراتجية متكاملة في تهميشها لإحكام قبضته على البلاد.
إحكام تطلّب منذ البداية تمسّك النظام المصري بقانون الأحزاب الصادر في عام 1977 الذي يحصر الموافقة على إنشاء الأحزاب بلجنة تتبع لوزارة الداخلية، أمعنت في رفض التراخيص حتى بلغ عدد الأحزاب التي رفضت لجنة شؤون الأحزاب تأسيسها حتى عام 2008 أكثر من 90 حزباً.
ومن خلال هذه الإستراتجية، نجحت السلطات في اختزال الساحة السياسة بالحزب الوطني الديموقراطي ومجموعة من الأحزاب، تدرك مسبقاً أنها قادرة على تطويعها بمختلف الوسائل.
أحزاب لم تخيّب آمال السلطة بعدما كان ضعف الأداء سمة ملازمة لها، في ظل عدم خلو أي منها من خلافات داخلية نتيجة لوثة الديكتاتورية التي أصابت معظمها من جهة، وفشلها في توحيد جهودها للوقوف في وجه النظام من جهة ثانية، لتقتصر مطالبها بالإصلاح على الشعارات. وفي مقدم هذه الأحزاب، حزب الوفد الجديد الذي فشل على الرغم من أعداد منتسبيه الكبيرة في استعادة أمجاد «حزب الأمّة» نتيجة تعرّضه لمضايقات السلطات والخلافات بين قادته.
ومع وفاة زعيمه فؤاد سراج الدين في عام 2001، تبدّلت الوجوه في الحزب ولم يتغير الأداء. والآمال التي علّقها البعض على رئيسه الجديد السيد البدوي، الذي انتخب في أيار 2010، لإعادة إحياء دور الحزب في الساحة السياسية بعدما اشترى صحيفة «الدستور» المعارضة، سرعان ما تبددت، بعدما تبين أن الهدف من هذه الخطوة لم يكن سوى تغيير سياستها التحريرية المعارضة حتى تصبح أكثر مهادنة للنظام.
حال المهادنة نفسها تنطبق على حزب التجمّع اليساري الذي اختار خرق مقاطعة مختلف الأحزاب جولة الإعادة في الانتخابات البرلمانية الأخيرة والمشاركة إلى جانب الحزب الحاكم. ورئيس الحزب رفعت السعيد، رفض بدايةً المشاركة في التظاهرات الاحتجاجية، وساهمت حماسته غير المفهومة لترشيح مبارك لولاية جديدة في وصفه بـ«بوق النظام»، إلى أن انتقل إلى تأييد المتظاهرين بعدما أدرك أن لا مجال بعد اليوم لنظام حسني مبارك، محاولاً إيجاد موقع له في صفوف المعارضين الحقيقيين.
بدوره، فشل الحزب العربي الوطني الناصري الذي نال ترخيصه في عام 1992 بقيادة ضياء الدين داوود، الناصري الهوى، في التخلص من خلافاته الداخلية التي أنهكته. وأثبت خلال الأيام الأخيرة بما لا يقبل الشك أنه يدور في فلك النظام، بعدما خصص أمينه العام، أحمد حسن الأمين، مختلف إطلالاته الإعلامية للتصويب على التظاهرات وأهدافها، مطالباً «الشعب المصري بضرورة أن يقف وقفة رجل واحد مع النظام الحالي لأنه استجاب لمطالبه».
وفي موازاة هذه الأحزاب التقليدية التي نجح النظام في إضعافها مستغلّاً نقاط ضعفها وافتقارها إلى رؤية واضحة للتعامل مع النظام، كان تجميد العضوية لأحزاب مثل حزب العدالة الاجتماعية، أو تعليق منح الترخيص لأحزاب أخرى، منها حزب الكرامة وحزب الوسط وحزب الإصلاح والتنمية والحزب المصري الليبرالي، هو السلاح الثاني الذي يشهره النظام في وجه كل من لا يسير في ركبه.
ولعل تجربة حزب الغد الذي مُنح الترخيص في عام 2004، الاستثناء الوحيد لحالة الوهن التي تعانيها الأحزاب المصرية، وأثبتت بما لا يقبل الشك عدم استعداد النظام للتسامح مع أي صوت يمكن أن يعارضه.
فعندما منحت السلطات أيمن نور، المنشقّ عن حزب الوفد الترخيص لحزب الغد، كانت تعتقد أنها ستُضعف أكثر وريث حزب الأمة. لكن المفاجأة كانت عندما خرج نور عن نطاق الأحزاب التقليدية، معلناً نفسه مرشحاً جدياً للانتخابات الرئاسية في عام ٢٠٠٥. ترشح كان إيذاناً بمعركة جديدة خاضها النظام ضد نور، انتهت إلى سجنه بعد إدانته بتقديم وثائق مزورة لتأسيس حزبه، قبل أن يعاد إطلاق سراحه قبل سنتين من انتهاء محكوميته بالتوازي مع منعه من مزاولة أي منصب سياسي طوال خمس سنوات تلي انتهاء فترة سجنه الأصلية.
ونجح نور جزئياً بعد خروجه من السجن في الحد من الخلافات التي اندلعت بين قادة الحزب لتولّي منصب الرئاسة في فترة غيابه ليعود من جديد إلى معارضة النظام.
وفي موازاة محاولات إقصاء حزب الغد، لطالما توجس النظام من حركة «الإخوان المسلمين» بعدما فشل في القضاء عليها، لتثبت أنها أكبر التنظيمات السياسية المعارضة، وأكثرها قدرة تنظيمية بعدما نجحت في عام ٢٠٠٥ في حصد ٢٠ في المئة من مقاعد البرلمان، فكان لا بد من منع تكرار السيناريو نفسه في انتخابات ٢٠١٠. وعلى الرغم من إسقاط النظام مرشحيها في الجولة الأولى ودفعها إلى مقاطعة جولة الإعادة، تُعدّ الحركة من أكثر التنظيمات السياسية ترجيحاً لأداء دور في مرحلة ما بعد حسني مبارك، ما يبرر سعي الحركة إلى عدم اتخاذ موقف صريح من أي من المرشحين المحتملين للرئاسة مفضّلة إرضاء الجميع بتصريحات فضفاضة.