القاهرة| لم تعد ثورة ميدان التحرير ثورة من أجل الحرية وحدها، بل أيضاً ثورة ضدّ الهمجية والتخلّف. الثوّار الجدد، أبناء التكنولوجيا، ومواقع «فيسبوك»، يواجهون همجاً وبلطجية يستخدمون السيوف والأحصنة والجمال لتفريق المتظاهرين وعقابهم... هكذا يدافع «الديناصورات» عن مقاعدهم بصيغة احترام الأب الكبير، حتى وإن قتلوا هؤلاء الأبناء، إخوانهم في الوطن.
على الجانب الآخر، كانت لافتة قدرة المتظاهرين على المقاومة، والتعامل بروح حضاريّة ورقّة شديدة أدهشتا الجميع.
لم يتوقع المتظاهرون أن يكون الغدر بهم بهذه الطريقة. كانوا يعيشون حياتهم بهدوء. لجمتهم المفاجأة، ووقع العدد الأكبر من الإصابات، في اللحظات الأولى بعدما اقتحمت الخيول والجمال تحصيناتهم البسيطة.
لكنهم بدأوا يستعيدون تماسكهم، وبدأت معارك الكرّ والفرّ بينهم وبين البلطجية. كانوا يجمعون ما يُلقى عليهم من «طوب» (حجارة) ليلقوه على الجانب الآخر. وكانت مهمة البعض إمدادهم بما يلزم من حجارة عبر تكسير بلاطات الرصيف، بينما تقوم السيدات بالضرب الشديد على الأسوار الحديدية لميدان التحرير من أجل تحفيزهم وكي لا ترعبهم همجيّة البلطجية. وكأنها طبول الحرب. بعضهم استخدم الورق المقوى لكراتين الماء كدرع واقية أو خوذة وُضعت على الرأس، من أجل الاحتماء من الحجارة والسيوف. صرخ البعض: إنها انتفاضة الحجارة. ولكن الجانب الآخر، طور أدوات الهجوم ولم يكتف بأسلحة قد تجرح ولا تقتل. أرادها إصابات مميتة، فاستخدم قنابل «المولوتوف» ثم الرصاص الحي. في الساعات الأولى، كانت معظم الإصابات في الرأس. تحوّل مسجد «عمر مكرم» وزاوية أخرى صغيرة تُستخدم في الصلاة كمستشفيات. تدفق عدد كبير من الأطباء بأدواتهم البسيطة، وجرى الاتصال بالبعض الآخر من أطباء العظام، بعدما استخدم المهاجمون العصيّ لإحداث إصابات في عظام المتظاهرين. وفي الساعات الأولى أيضاً، جاء وزير الصحة، أحمد سامح فريد، إلى الميدان، وطلب مقابلة المتظاهرين لحثّهم على استخدام عربات الإسعاف، لكنهم رفضوا الاستماع إليه، وطلبوا منه أن يغادر على الفور. اتفقوا في ما بينهم على نقل الحالات الخطرة إلى مستشفى خاص هو مستشفى «الشبراويشي»، رافضين الذهاب الى مستشفيات وزارة الصحة حتى لا يلقى القبض عليهم.
في المساء، تطور الاعتداء إلى رصاص حي، وهجمات من كل جوانب الميدان. ولكن جرى تأمين كل المداخل، باستثناء مدخلين هما مدخل عبد المنعم رياض، وشارع قصر النيل. واستطاع المتظاهرون تحصين أنفسهم بقوة، فعمدوا الى جمع بقايا من السيارات المحترقة للشرطة على اعتبارها تحصينات، وجمعوا الحجارة التي أُلقيت عليهم تحسّباً واستعداداً لهجمات جديدة، وخاصة أن المرتزقة لا يدافعون عن مبدأ ولا يمثّلون قضية، لذلك من السهل هروبهم مع تماسك الجميع!
بعد إحدى جولات البلطجية، بدأت تدخل إلى الميدان عربات الكشري، وبائعي السجائر وبعض عربات «حلوى الكسكسي» والبطاطا. تناولوا إفطارهم. وكانت المشكلة أن كثيرين ممن اضطروا الى المبيت خارج منازلهم أُغلقت هواتفهم المحمولة بعدما انتهى شحنها. وعلى الفور جاء أحد المهندسين الموجودين، وطلب شراء عدد من «مشتركات» الكهرباء، وقام بتوصيلها بطريقة ما «بأعمدة الإنارة» في الشارع وتمّ شحن الهواتف، ثم بدأت الحياة. جاءت إلى الميدان فرق موسيقية أنشدت الغناء. وتوافد مئات الشيوخ من الأزهر. ألقوا خطاباً لتحميس المتظاهرين، الذين بدأوا في تشغيل إذاعة داخلية تُلقي البيانات أو تعلّق على ما يصل من أخبار أو تنفي الشائعات.
الأطباء لم يتوقفوا أمس عن العمل. كانوا يتحركون في كل الميدان للتعامل مع المصابين الذين كانوا يبحثون عن ركن من أركان الساحة للراحة قليلاً. كان مدهشاً أن الاعتداءات أو تحذيرات قنوات التلفزيون المصري لم تؤثر على معنويات من تجمّعوا في الميدان. كل من جاء يوم أمس كان يحمل معه إمدادات طبية أو طعاماً، مياهاً وعصيراً أو حتى سجائر لمن كان يبيت في الميدان. البعض أقام ما يشبه «مقهى» صغيراً لتقديم الشاي والقهوة لمن يطلب. كما أقام عدد من الصحافيين مركزاً صحافياً، أصدر مجلة صغيرة بعنوان «أخبار الثورة» تنقل أخبار المتظاهرين. وتبرّع البعض بثلاث شاشات تلفزيونية. وقام المهندسون بنقل ما تنقله قناة «الجزيرة» أولاً بأول. كلما تغير تردّدها كان المهندسون ينجحون في تشغيلها. وهكذا لم تغب «الجزيرة» عن الميدان مع أنها غابت عن البيوت!
حالة من الرقّي فاجأت الجميع فعلاً. وهو ما جرى طوال أيام التظاهر. في أحد أركان الميدان رفع أحد المتظاهرين شعاره: يا مبارك الناس اتخنقت. بعد الثورة مافيش كنيسة اتحرقت. وبالفعل هذا ما حدث، لم تشك فتاة واحدة من حادث تحرش، أو يرفع شعار طائفي.. ولكن، هل تستمر حالة الرقي هذه دائماً أم أن للنظام رأياً آخر؟