بزغ صباح يوم أمس على وقع محاولات بائسة لنظام حسني مبارك للعب آخر أوراق كسب الوقت، وإرضاء «ثوّار النيل». رغبة النظام في الحوار رُدَّت مع الشكر، ورغم ذلك، ظلّت القنوات الإعلامية الموالية، تتقدمها فضائية «العربية» السعودية والتلفزيون المصري وصحيفة «الشرق الأوسط»، تحاول الإيحاء بأنّ المعارضين يتوافدون زرافات ووحداناً للحوار مع النظام.
مناورة معلَنة زيّنتها التظاهرات اليتيمة التي شارك فيها بضع عشرات تأييداً لمبارك أمام وزارة الخارجية المصرية في القاهرة، وواجهتها الملايين بوعي جلي وبشعار جديد وتقدمي: «لا لمبارك، لا للعسكر في السلطة، لا للدولة الدينية»، في ما قد يكون رداً غير معلن على وزير الخارجية الإيرانية علي أكبر صالحي و«بشارته» بأن الثورة المصرية هي مقدمة «لشرق أوسط جديد إسلامي».
وسارعت فصائل المعارضة المصرية غير المتجانسة في ما بينها، إلى الاجتماعات الماراتونية ليخرج عنها رفض لتلبية دعوة الحوار التي وجهها لهم نائب الرئيس عمر سليمان قبل رحيل مبارك. وأجمع المعارضون على أن المحادثات مع الجيش بشأن التحول إلى الديموقراطية لن تبدأ قبل تنحي الرئيس، وهو ما ترجمه النائب السابق عن «الإخوان المسلمين»، محمد البلتاجي، بقوله إنّ «المطلب الأول هو رحيل مبارك، وبعد ذلك فقط يمكن بدء الحوار مع الجيش بشأن تفاصيل انتقال سلمي للسلطة»، كاشفاً عن تفضيل حركته تولي قائد الجيش سامي عنان للرئاسة الانتقالية.
وفي بيان، أعلنت جماعة «الإخوان المسلمين» أنها «لا تعترف بشرعية أي قرارات حكومية منذ يوم 25 كانون الثاني» الذي بدأت فيه الاحتجاجات. وطالبت بأن يتولى رئيس المحكمة الدستورية السلطة كرئيس انتقالي، وأن تتولى حكومة مؤقتة إجراء انتخابات برلمانية، على أن تُنظَّم انتخابات رئاسية بعد تعديلات دستورية يجريها البرلمان.
وظهر الرفض القاطع من «الإخوان» للتفاوض مع سليمان لدرجة أنه «حتى بعد رحيل مبارك، سنرفض التعامل مع سليمان»، على حد تعبير القيادي في الحركة عصام العريان.
بدوره، قال محمد البرادعي، الذي اجتمعت به السفيرة الأميركية لدى مصر، مارغريت سكوبي، إنه إذا رحل الرئيس مبارك قبل يوم الجمعة المقبل، أي «جمعة الرحيل»، «فسيتقدم كل شيء في الطريق الصحيح»، معترفاً بأن الحكومة حاولت الاتصال بجماعات المعارضة من طريق رئيس حزب «الوفد» السيد البدوي. وأكد أنّ المعارضة «تريد أن تطوي صفحة الماضي، ولا تريد محاسبة مبارك عمّا حدث في عهده»، مشيراً إلى أنها ستقول «عفا الله عما سلف».
وفي السياق، كشف مصطفى النجار من مجموعة البرادعي، أن طلب إجراء محادثات جاء من وزير الاعلام أنس الفقي ورئيس الوزراء الجديد أحمد شفيق، مشيراً إلى أن المحادثات يمكن أن تؤدي إلى تأليف «مجلس أمناء» يتولى السلطة لمدة ثلاثة أشهر، ويمهد الطريق لانتخابات تؤدي إلى حكومة انتقالية لمدة عامين تقوم بإصلاحات دستورية تعقبها انتخابات برلمانية جديدة.
أما الحركات الاحتجاجية الشبابية التي أطلقت الانتفاضة الشعبية يوم الثلاثاء الماضي، فأكدت أنها ستختار ممثلها للحوار مع الدولة «ولكن بعد تنحي الرئيس».
ولما فشلت مساعي التفاوض المباشر مع قيادات المعارضة، أعلن التلفزيون المصري عن «اتصالات تجري بين مكتب نائب الرئيس والمجموعات الاحتجاجية المجتمعة في ميدان التحرير». كما خرج رئيس الحكومة المصرية الجديد أحمد شفيق على العالم بإعلان كاريكاتوري مفاده أنّ عدداً من المتظاهرين يتصلون بالتلفزيون الرسمي لطلب إشراكهم بالحوار. وتعهد شفيق بأن تشمل مراجعة حكومته الموقف السياسي والدستوري والتشريعي كاملاً «من دون أي قيود أو حدود». ووعد بأن «الأجور والأسعار وكل ما يعني المواطن المصري ويهتم به في منزله وعمله وحياته اليومية ونشاطه السياسي خاضعة لإعادة التعديل من جانب الحكومة الجديدة».
وحاول النظام المناورة مجدداً مساءً، عندما أعلنت قناة «العربية» أن وزير الداخلية المصري السابق، حبيب العادلي، المسؤول عن جرائم الشرطة وبلطجيتها، سيُحال إلى النيابة العسكرية.
وكانت السلطة، ممثلة بوزير الإعلام أنس الفقي، قد اعترفت في وقت سابق، بأن شبكات الاتصال الخلوي ستتوقف في إطار الإجراءات التي اتخذت استباقاً للتظاهرة المليونية في القاهرة وفي المدن المصرية الكبرى، إضافة إلى تطبيق أمر مبارك بوقف القطارات لأجل غير مُسمّى، بما يساعد في منع المتظاهرين من الوصول إلى ميدان التحرير خصوصاً.
ومثلما كان متوقعاً، كان موقف الجيش وسلوكه نموذجيين، إذ تولى مهمة حماية ملايين المتظاهرين من بلطجية وزارة الداخلية، عندما ضبط محاولات إدخال سلاح إلى ميدان التحرير، وغيّر زيّه الخاص به بعدما سرق الثياب العسكرية مشتبهٌ فيهم أن يكونوا من المندسّين من الشرطة.
وكان المصريون قد حسموا قرارهم، واختاروا يوم الجمعة المقبل «يوم رحيل» مبارك، بعدما اتفقوا على أن يتوجهوا لمحاصرة قصر «العروبة» إن لم يرحل قبل هذا التاريخ، بعدما صمّ أذنيه عن هتافات أكثر من خمسة ملايين مصري خرجوا أمس إلى الشوارع في مختلف المحافظات المصرية مرددين بصوت واحد «الشعب يريد إسقاط ومحاكمة الرئيس».
وفي الوقت الذي كان فيه الرئيس المترنح يلقي خطاباً مخيّباً للآمال تمسّك فيه بالبقاء في السلطة، كانت صيحات الاستهجان تعم ميدان التحرير على وقع ترديد المعتصمين «ارحل، ارحل، ارحل».
وعلّق أحد المتظاهرين بالقول «مبارك عنيد جداً ولكننا أكثر عناداً منه ولن نغادر إلى أن يرحل»، فيما كان المحتجون يردّدون «قسم الثوار»، قائلين «أقسم على استمرار الثورة الشعبية جندياً في صفوفها، لا أغادر الميدان حتى يغادر مبارك ورموز نظامه نهائياً هذا البلد».
وكانت القاهرة أمس قلب الحدث بعدما اكتظ ميدان التحرير بأكثر من مليوني متظاهر، متحدين بعض الأصوات التي خرجت من الحزب الوطني لتصفهم بالمرتزقة، ومحاولات السلطة منعهم من الوصول من خلال محاولتها عزل القاهرة عن محيطها، وقطع إرسال شبكات الهاتف المحمول في منطقة ميدان التحرير. ورفع المحتجون الأعلام المصرية مرددين هتافات تدعو إلى رحيل الرئيس المصري من نوع «يا مبارك صح النوم النهاردة آخر يوم» أو «يا سوزان خافي عليه واسحبيه من رجليه».
وبعدما حوّل المحتجون تظاهرتهم إلى اعتصام مفتوح في الميدان حتى رحيل مبارك، رفعوا شعارات «في التحرير حتى التحرير»، و«اعتصام اعتصام حتى يرحل النظام»، مثبتين أن دخول التظاهرات يومها الثامن، لم يؤثر على عزيمتهم بل زادهم إصراراً بعدما باتوا مقتنعين بأنهم قطعوا المرحلة الصعبة وأن سقوط مبارك ليس سوى مسألة وقت.
وضمّت الحشود محامين وأصحاب مهن أخرى إلى جانب عمال وطلبة، ما يكشف عن اتساع نطاق المعارضة لمبارك. وفيما وقف رجال ونساء يمسك بعضهم بأيدي بعض، قالت أمينة زكي، وهي مصمّمة فنية، «لا أعتقد أن مبارك سيصمد بعد يوم الجمعة. مستحيل»، بينما لخص أحد المتظاهرين الذين أمضوا ليلتهم في ميدان التحرير، ويدعى أحمد حلمي، مطالب المتظاهرين بالقول «إن الأمر الوحيد الذي سيقبله المحتجون هو أن يستقل مبارك طائرة ويرحل».
بدوره، قال وليد عبد المطلب «حققنا الجزء الصعب. الآن على المثقفين والسياسيين أن يتضافروا معاً ويقدموا لنا البدائل»، فيما كان آخرون يرفعون لافتات كتب على إحداها شعار «شدي حيلك يا بلد الحرية بتتولد»، فيما كتبت على لافتة أخرى عبارة «30 سنة من الظلم والاستبداد».
وتحت شعار «لا لمبارك لا للعسكر في السلطة لا للدولة الدينية»، قال محمد صلاح الدين «نريد دولة مؤسسات لا دولة الشخص الواحد».
وتأكيداً لدور النساء في التظاهرات، قالت مايا عمر «شعرنا بأننا لا يمكن أن نبقى في البيت بينما الناس يموتون في الشوارع لأن لديهم قضية. شعرنا بأننا لا بد أن نأتي إلى هنا ونقوم بما يمكننا القيام به. لذا جئنا إلى هنا مع الناس ومعنا ورقة لنكتب عليها بعض الكلمات».
وتصعيداً لأشكال الاحتجاج، تحولت شعارات المتظاهرين من «الشعب يريد إسقاط الرئيس» إلى «الشعب يريد إعدام الرئيس». وتحت أنظار ومسامع الجيش الذي عمد إلى تشديد الإجراءات الأمنية حول مقر الرئاسة في حيّ مصر الجديدة، كان الإعدام شنقاً هو مصير دمية تصوّر مبارك بعد محاكمة شعبية أقامها المحتجون له إلى جانب ثلاثة من رموز نظامه هم رئيس مجلس الشعب الحالي فتحي سرور، وأمين التنظيم بالحزب الوطني الحاكم أحمد عز الذي أجبرته احتجاجات «جمعة الغضب» على الاستقالة من منصبه ووزير الداخلية السابق حبيب العادلي.
ومشهد ميدان التحرير تكرّر في معظم المحافظات حيث تظاهر مئات الآلاف في الاسكندرية وعشرات الآلاف في ثلاث مدن في دلتا النيل هي المنصورة وطنطا والمحلة الكبرى، فيما قدّرت قناة «الجزيرة» أعداد المتظاهرين في مختلف المحافظات بثمانية ملايين.
وقال شهود عيان إن نحو ربع مليون محتج شاركوا في مسيرات في مدينة الإسكندرية. وكانت التظاهرات قد انطلقت من غرب المدينة وشرقها، قبل أن تلتقي في ميدان محطة سيدي جابر (قرب وسط المدينة)، وسط معلومات عن توجّه المحتجين لإقامة اعتصام مفتوح في الميدان حتى رحيل مبارك.
وخطب في المحتجين لدى بدء تجمعهم رجل الدين المعروف، أحمد المحلاوي، مطالباً «برحيل الرئيس حقناً للدماء».
ونجح المتظاهرون في إفشال بعض المحاولات التخريبية، وتمكنوا من ضبط سيارة محمّلة بالأسلحة الآلية كانت تحاول دخول ميدان التحرير.
وفيما مضت الاحتجاجات سلمية في معظم المحافظات، اعتدى مؤيدون لمبارك على محتجين عليه بالسيوف في مدينة كفر الشيخ بدلتا النيل وأصابوا أربعة منهم. وقال شاهد إن مؤيّدي مبارك الذين وصل عددهم إلى مئتين وكانوا مسلحين بالسيوف والسواطير هاجموا المحتجين الذين قدرت أعدادهم بالألوف.
بدوره، أكد أحد الشهود في مدينة الإسكندرية أن عشرات من مؤيّدي مبارك هاجموا بعض المشتركين في الاحتجاج لكن لم يحدث اشتباك.
(الأخبار، أ ب، أ ف ب،
رويترز، يو بي آي)