بات يمكن الشعب المصري إلقاء تحية الوداع على حسني مبارك، بغض النظر عن حقيقة بقائه في السلطة لأيام أو لأسابيع مقبلة حتى. هذا ما وشت به تطورات يوم أمس: تصدّر عمر سليمان المشهد السياسي تحت عنوان تكليفه من قبل الرئيس بإدارة الأزمة. إدارة هي عبارة عن إجراء حوار مع أطراف المعارضة وأحزابها، كانت الحكومة الجديدة التي أُعلنت قبل ساعات قد تحدثت عن أنها من كُلّف بأداء هذه المهمة.إعلان من عمر سليمان بالغ الدلالة، يوحي بأن مبارك قد لا يظهر في الصورة بعد اليوم، وخاصة أن عائلته وحاشيته قد غادروا مصر على ما تفيد المعلومات، فضلاً، طبعاً، عن حقيقة أن الشعب المصري ربما سمع صوت مدير استخباراته أمس للمرة الأولى، في تجربة لم تكن مشجعة، على ما عبّرت عنه ردود فعل المتظاهرين.
ولا يمكن، بطبيعة الحال، فهم أهمية هذه الخطوة، إلا بوضعها في سياق تطورين اثنين: الأول، إعلان الجيش المصري الصريح انحيازه إلى الشعب ومطالبه «الشرعية»، مرفقاً بتعهد بعدم إطلاق النار على المتظاهرين في أي ظرف كان. أما الثاني، وهو ما كشفت عنه وكالة «أسوشييتد برس» ومفاده أن الرئيس باراك أوباما قرر إرسال السفير الأميركي السابق لدى مصر، فرانك ويسنر، مبعوثاً رئاسياً خاصاً إلى القاهرة لحثّ مبارك على القيام بالإصلاح المطلوب، مرفقاً بتأكيد مسؤولين أميركيين أن إدارة أوباما تفضّل ألّا يترشح الرئيس مبارك مجدداً إلى انتخابات أيلول المقبل، وذلك في ظل أنباء عن أن وحدة من قوات مشاة البحرية «مارينز» وُصفت بأنها «مدجّجة بالسلاح» قد أُرسلت إلى القاهرة لحماية السفارة الأميركية التي يقال إنها من أكبر السفارات الأميركية في العالم.
ذلك كله حصل عشية تظاهرة مليونية توعّد بها المتظاهرون اليوم، في ظل محاولات من قبل السلطات لعرقلتها عن طريق تعطيل حركة النقل بين المحافظات والعاصمة، متناسية أن القاهرة وحدها يقطن فيها 22 مليون مصري، على ما أفاد نشطاء في المعارضة.
ولعل أكثر الإجراءات لفتاً للنظر، نشر السلطات المصرية وحدات عسكرية في سيناء، بضوء أخضر إسرائيلي، خلافاً لما تنصّ عليه اتفاقية كامب ديفيد، فضلاً عن الحملة الدبلوماسية الدولية التي أطلقتها الدولة العبرية دعماً لاستقرار نظام مبارك، مرفقة بانتقاد لإدارة أوباما بسبب تخلّيها عنه. أما أكثر التصريحات إثارة للسخرية، فتلك التي تحدثت عن تعهد محمد البرادعي بحماية الرئيس المصري وبعدم ملاحقته قانونياً إذا تنحّى عن السلطة طواعية.
وتتحدث معلومات فرنسية المصدر عن اقتناع تكوّن لدى المعنيين الرئيسيين بالملف المصري بضرورة رحيل مبارك. وتضيف أن هذا الأخير أصرّ خلال الأيام القليلة الماضية على مغادرة البلاد، لكنه بقي فيها بضغط أميركي وبعض رجالاته، من أجل إفساح المجال لترتيب الوضع الداخلي والتمهيد لتولّي عمر سليمان مقاليد الحكم. وهذا ما يفسّر الإعلان الذي صدر عن الأخير مساء يوم أمس.
ولم يتضح بعد ما إذا كان عمر سليمان والجيش يقفان في الخندق نفسه، وخاصة أن ما صدر عنهما يبدو متناقضاً للوهلة الأولى. والرأي الغالب يتحدث عن أن سليمان إنما يمثّل الحرس القديم للنظام، فيما المؤسسة العسكرية تحاول أن تؤدي دوراً منفصلاً، علماً بأن مدير الاستخبارات ووزير الدفاع محمد طنطاوي لطالما عُدّا من أوفى رجالات مبارك.
ولعل ما حصل قبل أسابيع، يوم هوى مبارك عن المنصة أثناء إلقائه خطاباً في مجلس الشعب، أبرز دليل على ذلك. وقتها لم يُسمح سوى لسليمان وطنطاوي بدخول غرفة مبارك. حتى ابنه جمال مُنع من الدخول، فيما كان الجيش قد انتشر، خلال دقائق من السقطة، في التقاطعات الرئيسية في القاهرة وحول المؤسسات الرسمية من مجلس الوزراء والبرلمان، إضافة إلى الإذاعة والتلفزيون. حادثة جعلت رجالات الدولة يؤكدون، قبل اندلاع ثورة النيل، أن الناخب الأول الذي سيحدد خليفة مبارك ليس سوى الجيش ومديرية الاستخبارات، مستبعدين أي إمكانية للتوريث. ويوضحون أن الفئات المهيمنة في المجتمع المصري تضمّ كبار ضباط الجيش الذين صاهروا كبار رجال الأعمال ومعهم كبار البيروقراطيين وديناصورات الحزب الحاكم، حتى قيل وقتها إن خليفة مبارك سيكون على الأرجح ضعيفاً، ليس أكثر من واجهة لأوليغارشية مهيمنة مهمته إدارة مصالحها. ما حصل في خلال الانتخابات التشريعية الأخيرة، من انقضاض للحرس القديم على مجموعة جمال مبارك من رجال الأعمال، واستعادة الدفة منها، لم يكن ليغير من المعادلة شيئاً. انتخابات بلغ التزوير فيها حداً اضطر فيه الحزب الحاكم، في الدورة الثانية، إلى التزوير لمصلحة مرشحي المعارضة، ويرى البعض أنها كانت أحد الأسباب الرئيسة التي أدت إلى اندلاع ثورة النيل.
غير أن التطورات الأخيرة، التي لم تكن في الحسبان، فرضت على الجميع حسابات من نوع آخر، كانت حصيلتها تصدّر عمر سليمان المشهد، على ما ظهر في كلمته المتلفزة أمس. قال، بصوت جاف حملته ملامح أكثر قساوة من الصخر، أن مبارك كلّفه «بفتح الحوار حول كافة عناوين الإصلاح، خصوصاً السياسي والديموقراطي منه». وأضاف أن مبارك شدّد على ضرورة بتّ قرارات محكمة النقض بالطعون المقدمة بحق النواب الـ275 من الحزب الوطني الحاكم بنحو سريع وعادل «لإعادة الانتخابات في الأسابيع المقبلة». كذلك نقل سليمان تعهُّد الرئيس بأنه «في غضون أيام، سيصدر بيان الحكومة الذي سيتضمّن سياسات واضحة لاستعادة الثقة بالاقتصاد المصري وللحد من البطالة والفقر والفساد».
وكان متحدث رسمي باسم وزارة الدفاع قد أكد، في بيان تلاه في وقت سابق، «إلى شعب مصر العظيم»، أن «قواتكم المسلحة، إدراكاً منها لمشروعية مطالب الشعب وحرصاً منها على القيام بمسؤوليتها في حماية الوطن والمواطنين، كما عهدتموها دائماً، تؤكد أن حرية التعبير بالطرق السلمية مكفولة للجميع».
ولا بد من الإشارة هنا إلى أن المؤسستين العسكريتين الوحيدتين اللتين تحظيان باحترام الشارع المصري، بل مثار فخر وعزة بالنسبة له، هما الجيش الذي يقوده المشير محمد حسين طنطاوي، ومديرية الاستخبارات التي يقودها عمر سليمان. الأول، بسبب الحروب التي خاضها في أكثر من مكان، وخاصة في مواجهة إسرائيل وعبور قناة السويس وتحرير سيناء، ولكونه لم ينخرط، كقوات الشرطة والأمن المركزي، في القمع والتعذيب. أما الثانية، فبسبب شهرتها العالمية، منذ إنشائها أيام جمال عبد الناصر، ولكونها لم تتدخل يوماً في السياسة الداخلية، خلافاً لجهاز أمن الدولة الذي نغّص على المصريين حياتهم إلى الحد الذي باتوا يحلمون به في نومهم (الاستخبارات لا تتدخل في الشأن الداخلي إلا عند المفاصل المصيرية). من هنا، فإن الوجهة التي ستتخذها كل من هاتين المؤسستين ستكون بالغة التأثير على مسار الأمور.
وترى الولايات المتحدة في الجيش المصري حليفاً استراتيجياً لها، على اعتبار أن معظم ضباطه قد تخرجوا من أكاديمياتها العسكرية عدا عن الـ1.3 مليار دولار من المساعدات السنوية التي يحصل عليها منها وانتشار المستشارين الأميركيين في ألويته وقطاعاته. أما إسرائيل فترى في جهاز الاستخبارات، وخاصة في مديره عمر سليمان، ضمانتها في التزام النظام المصري بمسيرة كامب ديفيد. غير أن رجالات النظام السابق من العالمين بخفايا الأمور يؤكدون أن كل هذه الأقاويل ليست سوى سياسة نظام وليس العكس، مؤكدين أن العقيدة العسكرية المصرية تحدد التهديدات الاستراتيجية وفق الأولويات التالية: إسرائيل فالسعودية فإيران، وهي ملفات في أيدي جهاز الاستخبارات. ويضيفون أن «موضوع السيادة بالنسبة لهاتين المؤسستين قضية لا يمكن المزاح فيها، وأي منهما لن تقبل التعدي على الأراضي المصرية بأي طريقة كانت». وإذا كانت مديرية الاستخبارات قد حسمت توجهها بدعم تولي رئيسها لمقاليد السلطة على ما يظهر، فليس واضحاً بعد ما سيكون عليه موقف الجيش.
وكان لافتاً أمس رفض المعارضة المصرية للحكومة التي أعلنت تشكيلتها قبل ظهر أمس وضمت 14 وزيراً جديداً و15 قديماً، بينهم طنطاوي ووزير الخارجية أحمد أبو الغيط. ولعل أكثر المواقف حدة تلك التي صدرت عن جماعة «الإخوان المسلمين» التي دعت إلى استمرار التظاهر «حتى يترك النظام كله السلطة برئيسه ووزرائه وبرلمانه». هذا الموقف يبرّره حجم العداء الذي يكنّه سليمان للجماعة، والذي حمله معه إلى نظيرتها الفلسطينية، «حماس».
رفض يفترض أن يعّبر عنه الشارع المصري اليوم بتظاهرة مليونية في ميدان التحرير في القاهرة، تسعى السلطات بكل ما بقي لها من أدوات، لإجهاضها.
وكان لافتاً انضمام تركيا إلى المطالبين مبارك بتلبية «المطالب المشروعة» للشعب المصري. كذلك فعل وزراء خارجية الاتحاد الاوروبي الذين دعوا إلى «انتقال سلس للسلطة»، على قاعدة أن «حكومة ذات قاعدة عريضة من شأنها أن تفضي الى عملية حقيقية من الإصلاحات الديموقراطية الضرورية».
أما الموقف الأكثر تعبيراً، فقد صدر عن الرئيس السوري بشار الأسد، الذي جزم بأن ما يحصل في مصر وتونس لن يمتد إلى سوريا، لأن «التسلسل الهرمي الحاكم في سوريا يرتبط ارتباطاً وثيقاً بمعتقدات الشعب»، ولأنه «لا يوجد سخط جماهيري ضد الدولة»، مشيراً إلى أن الأولوية بالنسبة له «تبقى الاستقرار والانفتاح التدريجي للاقتصاد».