كلما ازدادت أيام الاحتجاجات في مصر قويت عزيمة المتظاهرين. وكلما سقط قتيل جديد برصاص الشرطة ازداد إصرارهم على عدم الخروج من الشارع قبل تحقيق مطلبهم بإسقاط نظام حسني مبارك، مردّدين «مش حنمشي مش حنمشي»طلاب جامعات ومدارس، ناشطون حقوقيون، رجال دين أزهريّون، قضاة، محامون، صحافيون، ربّات منازل مع أطفالهن، عمال مصانع... المصريون بمختلف فئاتهم تحدّوا خلال اليومين الماضيين حظر التجول المفروض من السلطات ورابطوا في الشوارع، مؤكدين استمرار تحركهم المطالِب برحيل الرئيس حسني مبارك، في الوقت الذي نجح فيه المتظاهرون بكسب العديد من النقاط في مواجهة النظام المترنّح.
وأثبت المتظاهرون أن قرار حظر التجول ليس سوى حبر على ورق، حتى لو عمدت السلطات إلى تمديده ليسري، بدءاً من اليوم، من الساعة الثالثة بعد الظهر حتى الثامنة صباحاً، وذلك بعدما نجحوا في الحفاظ على حضورهم في الشوارع طوال ساعات الليل. كذلك، أجبر المحتجّون النظام على إعادة السماح لشبكات الهاتف المحمول والإنترنت باستئناف خدماتها ولو جزئياً، بعدما برهنوا على أن الهواتف النقالة ومواقع التواصل الاجتماعي ليست سوء جزء من أساليب النضال، وأن حجبها لن يزيدهم سوى إصرار على مواصلة احتجاجاتهم للتحرر من سنوات الظلم ومصادرة الحريات، التي فرضتها شريحة فاسدة وجشعة.
والمزيد من النجاح ناله المتظاهرون بعدما أثبتوا أن نضالهم للتغيير السلمي لا ينفصل عن حماية البلاد من مخطط نشر الفوضى. وجاء قرار المتظاهرين الانقسام إلى مجموعتين، الأولى تتظاهر فيما تعمد المجموعة الثانية الى تشكيل اللجان الأهلية لحماية الأحياء بالتعاون مع الجيش، ليمثّل ضربة قاضية لمحاولة النظام فرض مقولة «إما أنا أو الفوضى».
وبينما أعاد المحتجّون تنظيم صفوفهم وتحديد أولوياتهم، واصل ميدان التحرير في القاهرة استقبال الحشود الغفيرة التي تدفقت عليه لتأكيد عدم الرضى عن الإجراءات التي أعلنها مبارك من تأليف حكومة جديدة وتعيين مدير الاستخبارات المصرية، عمر سليمان، نائباً له لأول مرة، مردّدين «لا مبارك ولا سليمان يسقط يسقط الطغيان».
وأجمع المتظاهرون على اعتبار التعيينات الجديدة دليلاً على ضعف مبارك، وتكراراً لمسرحية التنازلات التي بدأها الرئيس التونسي المخلوع زين العابدين بن علي قبل إطاحته، وطالبوا باستبعاد كامل للحرس القديم وليس مجرد تعديل حكومي. وقال محمد عيسوي، «إن هذا غير مقبول، وعلى مبارك أن يتقاعد، فالاضطرابات العامة لن تتوقف إلا بعد تحقيق ذلك». بدوره، علّق أحد المحتجين على تعيين سليمان بقوله «زيه زي مبارك. مافيش تغيير».
ووسط هتافات التنديد برجالات حكم مبارك والهتافات ضد «عملاء اسرائيل»، أضاف المتظاهرون مطلباً جديداً إلى تحركاتهم، مؤكدين ضرورة عدم السماح لمبارك بالخروج من مصر ومحاكمته على جرائمه. وتحدثت معلومات لـ«الأخبار» عن مساع تبذل لتأسيس اتحاد عام للنقابات العمالية، والبدء بإجراءات لإعلان إضراب عام في مختلف المحافظات.
وفيما ترددت شائعات عن قيام جموع من المتظاهرين بإلقاء القبض على وزير الداخلية، حبيب العادلي، والأمين العام السابق لتنظيم الحزب الوطني الحاكم أحمد عزّ قبل تسليمهم إلى الجيش، نجح المتظاهرون في الحفاظ على تجاوب الجيش معهم من خلال ترديدهم الدائم لشعار «سلمية.. سلمية». بدورهم، التزم أفراد الجيش بروح التسامح التي أبدوها تجاه المحتجين، وصولاً إلى طمأنة أحد ضباط الجيش المتظاهرين في ميدان التحرير إلى أنه لن يجري التعرض لهم بعدما حلقت طائرات «اف 16» فوق التجمع مرات عديدة.
ونُقل عن أحد قادة الجيش من ميدان التحرير قوله، إن عدم استدعاء قوات من المشاة إلى أماكن التظاهرات، هو أكبر دليل على حسن نيات الجيش، فيما ارتفعت هتافات «لا للتمديد، لا للتوريث، مصر بتولد ألف رئيس»، و«يا مبارك يا خسيس، الدم المصري مش رخيص».
ولم يختلف المشهد في القاهرة عن باقي المحافظات المصرية. وتجمع قرابة مئة ألف شخص في المنصورة مطالبين برحيل مبارك بالتزامن مع تشييع ثلاثة أشخاص، بينهم طفلة، قتلوا أول من أمس برصاص الشرطة، في وقت تفيد فيه تقديرات متعددة عن مقتل ما لا يقل عن 100 شخص خلال الأيام القليلة الماضية، فيما تخطى عدد الجرحى الألفين.
وفي محافظة البحيرة، تخطى عدد المتظاهرين الذين خرجوا إلى الشوارع الـ 150 ألفاً، فيما تجددت التظاهرات في دمنهور والسويس والمحلة والإسكندرية التي أعلن الناشطون فيها عزمهم اليوم على رفع شعار «نحدد مصيرنا بأيدينا»، رفضاً لما اعتبروه دعماً تقدمه الولايات المتحدة لمبارك.
وفيما انضم عدد من صحافيي «الأهرام» إلى المحتجّين بعدما وقّعوا على بيان يطالب مبارك بالتنحّي، متهمين إياه بأنه «سفاح»، بدأت المعارضة المصرية مرحلة ترتيب صفوفها استعداداً لمرحلة انتقالية، يبدو أن المدير العام السابق للوكالة الدولية للطاقة الذرية محمد البرادعي سيؤدي دوراً محورياً فيها، بعدما فوّضته الجمعية الوطنية للتغيير، للتفاوض من أجل تأليف حكومة وحدة وطنية.
وكرر البرادعي، الذي انضم مع حلول الظلام أمس إلى جموع المحتجين في ميدان التحرير، دعوته الرئيس المصري إلى ترك منصبه لإفساح الطريق أمام حكومة وحدة وطنية. وقال للمتظاهرين «لنا مطلب أساسي هو رحيل مبارك. وسنحقق هدفنا وسنبدأ مرحلة جديدة يعيش فيها المصريون بحرية وكرامة». وأضاف «أناشدكم الصبر، قوّتنا في عددنا ونحن على الطريق» الصحيح، «ما بدأناه لن يعود الى الوراء أبداً».
وكان البرادعي قد أعرب، في حديث إلى شبكة «سي.ان.ان» التلفزيونية الأميركية، عن أمله في أن يتمكن من تأمين «اتصال قريب مع الجيش»، مضيفاً «نحن بحاجة الى العمل معاً لأن الجيش جزء من مصر».
وانتقد البرادعي الموقف الأميركي من الأزمة، مشيراً إلى أن «الولايات المتحدة تفقد صدقيّتها عبر دعوتها الى إرساء الديموقراطية في مصر ومواصلة دعمها لمبارك».
من جهته، رأى المرشد العام لجماعة الإخوان المسلمين، محمد بديع، أن كل ما يحدث الآن في مصر يتحمل نتيجته مبارك، لافتاً إلى أن أعداد الشهداء والجرحى أضعاف ما تذيعه الجهات الرسمية. وبعدما أكدت الجماعة تفويض البرادعي على لسان القيادي فيها سعد الكتاتني، عبرت في بيان عن رفضها للتعيينات الجديدة التي أصدرها مبارك، مشيرةً إلى أنها تمثّل «التفافاً على مطالب الشعب ومحاولة لإجهاض ثورته». وفيما أكد القيادي في الجماعة، كمال الهلباوي، من منفاه في لندن، أنه لن يكون بمقدور الإسلاميين وحدهم حكم مصر، دعا عبد الحكيم جمال عبد الناصر إلى إقامة حكم انتقالي لا وجود فيه لحسني مبارك، في وقت دعا فيه مثقفون مصريون في بيان موجه الى القوات المسلحة، الجيش الى مساندة «ثورة الشعب وتمكين الإرادة الشعبية» من الوصول بمطلب التغيير الدستوري الشامل الى بر الأمان. وفي خضمّ مساعي التغيير، نجح المحتجون خلال اليومين الماضيين في إثبات رغبتهم في الحفاظ على الأمن وعدم نشر الفوضى، بتشكيلهم لجاناً شعبية عملت على حماية الأحياء والشوارع، بعدما انتهزت مجموعات مجهولة انتفاضة الشعب وانسحاب الشرطة شبه التام، للقيام بعمليات نهب، حتى غدت الشوارع المصرية مليئة بالمتاجر المنهوبة والمحروقة.
ونجحت اللجان التي ضمت رجالاً وشباباً وأحياناً نساء مسلحين بالعصي لحراسة منازلهم ومحالهم وبعض المؤسسات العامة في إحباط العديد من الهجمات، فيما أفادت المعلومات عن اعتقال الجيش حوالى 450 شخصاً من مثيري الشغب ومرتكبي عمليات النهب.
واتهم المتظاهرون أجهزة الدولة الأمنية بالتسبب في إغراق البلاد بحالة من الفوضى، بعدما أكد شهود عيان أن السلطات أطلقت سراح المسجونين في سجن قنا العمومي. بدورهم، ألقى مسؤولون أمنيون باللائمة على السجناء، من بينهم مجرمون محكومون بالإعدام ومعتقلون في قضايا إرهاب، تمكنوا من الفرار من عدة سجون في العديد من المدن المصرية، ومنها سجون وادي النطرون وطرة وقنا، لكنهم نفوا أي تورط في إطلاقهم.
ووفقاً لمحامي الإخوان المسلمين، عبد المنعم عبد المقصود، تمكن 34 من قادة وكوادر الجماعة اعتقلوا الخميس الماضي، من استعادة حريتهم، بعد تمرد في سجن وادي النطرون الواقع على الطريق الصحراوي بين القاهرة والإسكندرية. أما في سجن أبو زعبل، فقالت مصادر أمنية إن عدداً كبيراً من السجناء فرّ، فيما تحدث شهود عيان عن وجود عشرات الجثث في الطرقات. إلى ذلك، تواصلت عمليات حرق المقارّ الرسمية في عدد من المحافظات خلال اليومين الماضيين بما في ذلك في مدينتي ببا وناصر حيث قتل 17 خلال محاولتين لاقتحام قسمي شرطة. كذلك أفاد شهود عن إشعال مجهولين النار في أقسام الشرطة في مدن أسيوط وسفاجا ودمياط، والقليوبية وطوخ.
(الأخبار، أ ف ب، رويترز، يو بي آي)