لم يعد أي جديد تكشفه الوثائق الرسمية التي تنشرها وتبثّها فضائية «الجزيرة» عن تواطؤ السلطة الفلسطينية مع إسرائيل، مفاجئاً. فكلّ «حلقة فضائح» تكشف عن وجه جديد من هذا التواطؤ. آخر الوثائق خرجت إلى العلن، أمس، ويمكن عنونتها بـ«تواطؤ» سلطة محمود عباس مع دولة الاحتلال في عدوان «الرصاص المصهور» على قطاع غزة، وجهود رام الله لحماية الدولة العبرية من عواقب «تقرير غولدستون».
وأفادت الوثائق السرية بأن أبو مازن «كان على علم بنية إسرائيل مهاجمة غزة قبل العدوان على القطاع»، مشيرة إلى أن سلطته «عملت على سحب تقرير غولدستون» من التداول في الأمم المتحدة، وهو الذي اتهم تل أبيب بارتكاب جرائم حرب في ذلك العدوان.
ففي اجتماع مع المبعوث الأميركي إلى منطقة الشرق الأوسط، جورج ميتشل، في 21 تشرين الأول 2009، اعترف رئيس دائرة المفاوضات في منظمة التحرير الفلسطينية صائب عريقات بأن رئيس الدائرة السياسية والأمنية في وزارة الدفاع الإسرائيلية عاموس جلعاد، «ذهب إلى أبي مازن قبل الهجوم وسأله»، فاكتفى أبو مازن بالرد أنه «لن يذهب إلى غزة على ظهر دبابة إسرائيلية».
وتكشف الوثائق أن السلطة أرادت مشاركة دولة الاحتلال في حصاد نتائج الحرب على حساب حركة «حماس»، بدليل قول الرئيس السابق لطاقم المفاوضات في السلطة، أحمد قريع، لوزيرة الخارجية الإسرائيلية السابقة تسيبي ليفني في 22 كانون الأول 2008، «سنهزم حماس إذا توصلنا إلى اتفاق، وسيكون هذا هو ردّنا على دعواهم أن استعادة أرضنا يمكن أن تتحقق فقط عبر المقاومة».
وثيقة أخرى نقلت عن رئيس حكومة تسيير الأعمال الفلسطينية سلام فياض قوله لوزيرة الخارجية كوندوليزا رايس في 4 آذار 2008 إنه «بالنسبة إلى غزة، هناك طرف وحيد منتصر (قبل العدوان): حماس. إسرائيل لم تربح. نحن خاسرون بالتأكيد في هذا الحدث. حماس تحاول أن تتصدر الأخبار، وأن تخلق الظروف التي أدت إلى الانتفاضة الأخيرة».
وبدا تحقيق مكاسب في مواجهة «حماس» أمراً ملحاً بالنسبة إلى السلطة، وهو ما عبّر عنه عريقات في لقائه، برفقة فياض، مع المستشار السابق للأمن القومي الأميركي، ستيفن هادلي، في 29 يوليو 2008، حين قال للمسؤول الأميركي «نحن نحتاج إلى اتفاق، إنها مسألة حياة أو موت سياسي بالنسبة إلينا في علاقتنا بحماس».
وكشفت وثائق أخرى أن السلطة استمرت باتصالاتها مع الإسرائيليين حتى بعد العدوان على القطاع أو ربما في أثنائه. ففي 21 تشرين الأول 2009، خاطب عريقات مستشار الأمن القومي الأميركي السابق الجنرال جيم جونز بـ:«نحن نلتقي الإسرائيليين دورياً بشأن الأمن، بغض النظر عن السياسة».
وفي اجتماع آخر مع ميتشل بتاريخ 20 تشرين الأول 2009، طمأنه عريقات بالقول «سنحافظ على الاتصالات، ولكن مع عاموس جلعاد، في أي وقت كان»، في تأكيد لما كانت وسائل إعلام إسرائيلية عديدة قد وصفته بأنه «تعاون ممتاز» من قبل السلطة الفلسطينية.
لا بل أكثر من ذلك، فقد أكّدت وثائق أخرى أن سلطة عباس حرّضت إسرائيل وقوى إقليمية ودولية، بطريقة مباشرة وغير مباشرة، على التخلص من «حماس». ففي 11 آذار 2008، ينصح فياض مبعوث «الرباعية الدولية»، طوني بلير، بأنّ «فتح المعابر سيف ذو حدّين، وإذا تكوّن الانطباع أن حماس نجحت في فتحها، فإن ذلك سيُفهم منه أن الصواريخ تؤتي أُكُلها». ويضيف «طلبتُ من كوندوليزا رايس أن تضغط على إسرائيل بخصوص ذلك». ويظهر قريع في وثيقة أخرى شديد الحماسة لإعادة احتلال إسرائيل لمعبر فيلادلفيا. ولهذا الهدف، توجه أبو العلاء لليفني بالقول «لقد أعدتم احتلال الضفة الغربية، وبإمكانكم احتلال المعبر إذا أردتم». وحين تسأله عمّا إذا كان يوافق على إعادة احتلال غزة، يلوذ قريع بالصمت.
وفي ما يتعلق بتقرير غولدستون الذي حمّل الدولة العبرية مسؤولية ارتكاب جرائم في عدوان غزة، تأكّد رسمياً، من خلال وثائق أمس، أن السلطة كانت هي مَن أجّل بحث التقرير أمام مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة في الثاني من تشرين الأول 2009. وتبيّن أن رغبتها في استئناف المفاوضات مع إسرائيل كانت من ضمن الأسباب التي دفعتها إلى ذلك.
وفي لقاء بتاريخ 21 تشرين الأول 2009 لعريقات مع الجنرال جونز، شكر الأخير المسؤول الفلسطيني على سحب السلطة للتقرير، ووصف الأمر بأنه «شجاعة». وتوجه الجنرال إلى محاوره عريقات بالقول «لقد بلغتنا الرسالة وسنعمل عليها على نحو عاجل. شكراً على ما فعلتموه منذ أسبوعين (بشأن طلب تأجيل مناقشة تقرير القاضي غولدستون) لقد كان أمراً في غاية الشجاعة».
وعن الدوافع التي تقف خلف طلب السلطة تأجيل بحث التقرير، تشرح وثيقة 2 تشرين الأول 2009 الأمر، إذ يرد فيها كتابَة ميتشل ما يأتي: «ستساعد السلطة الفلسطينية في توفير جوّ إيجابي يقود إلى المفاوضات، وعلى وجه التحديد فإنها ستمتنع خلال المفاوضات عن متابعة أو دعم أي مبادرة بطريقة مباشرة أو غير مباشرة في المحافل القانونية الدولية، بما من شأنه أن يسهم في اهتزاز ذلك الجو».
وفي حديث بين عريقات وميتشل، يشكو المفاوض الفلسطيني كيف أن «مصر والأردن والسعودية، جميعها، أنكرت أيّ معرفة بتأجيل غولدستون. رموا المنشفة في وجه أبو مازن، ملقين باللائمة عليه وحده».
(الأخبار)