الدوحة| فتحت الهزّة الدبلوماسية التي أحدثتها تسريبات «ويكيليكس» الباب واسعاً أمام الجدال حول حدود العمل الدبلوماسي وسرّيته، والعلاقات بين المواطنين والسلطة التي تمثلهم وتتخذ القرارات باسمهم. فهل جعلت تسريبات «ويكيليكس» العالم أفضل؟ هل كشفت الوجه الحقيقي للحكومات وفضحتها أمام شعوبها؟
وماذا لو كان العكس صحيحاً، بما أن جوليان أسانج وفريقه تصرفوا بتهوُّر سعياً وراء الشهرة، فعرّضوا الأمن القومي لدول عدة للخطر، وعرّوه أمام الإرهابيين، ووجّهوا ضربة في العمق للعمل الدبلوماسي، وبالتالي دفعوا الحكومات كي تكون أكثر تقوقعاً على ذاتها وأن تبحث عن سبل جديدة كي تخفي تحركاتها الدبلوماسية عن شعوبها؟
وجهتا نظر كانتا موضع نقاش ساخن في العاصمة القطرية، الدوحة، قبل يومين، احتضنه «حوار الدوحة» تحت عنوان «هذا المنتدى يعتقد أن العالم أفضل حالاً مع ويكيليكس». عنوان تحوّل إلى نوع من الاستفتاء، وانتهى بتصويت الحضور، وهم شباب عرب ومسلمون أعمارهم تبدأ من سن الـ16، أيّد 74 في المئة منهم هذه الخلاصة التي يحملها عنوان «الحوار»، في مقابل 24 في المئة نفوا أن يكون «ويكيليكس» قد جعل العالم أفضل.
وإلى طاولة مستديرة، نُظّم الحوار بين فريقين خصمَين. مثّل الفريق الأول كارن روس، وهو دبلوماسي بريطاني سابق، استقال من وظيفته الحكومية على خلفية انخراط لندن في احتلال العراق، ويدير حالياً مجموعة دبلوماسية استشارية لا تبغي الربح. روس لم يتوقف عن التذكير بتجربته الدبلوماسية في بلاد الرافدين كي يدافع عن تسريبات «ويكيليكس»، وإلى جانبه السير ريتشارد دالتون، وهو أيضاً سفير بريطاني سابق لدى إيران، يعمل حالياً في المعهد الملكي للعلاقات الدولية «رويال انستيتيوشن فور انترناشونال أفيرز» في لندن.
أما في المقلب الآخر، فجلس كارل فورد، مدير سابق للاستخبارات في وزارة الخارجية الأميركية، يعمل حالياً أستاذاً في جامعة «جورج تاون» للخدمات الخارجية، ومعه الكندي سكوت غيلمور، مؤسِّس منظمة «بيس ديفايدنت تراست» ومديرها التنفيذي، والدبلوماسي السابق في إندونيسيا وتيمور الشرقية.
أمّا الطرف المراقِب، فكان جمهوراً من الشباب العربي والإسلامي، أتوا من أكثر من 42 دولة ليشهدوا على الحوار ويشاركوا فيه من خلال أسئلة أحرجت الضيوف في كثير من الأحيان. هكذا كان الجمهور أكثر جرأة في التعبير عن وجهات النظر المختلفة، واصطفّ أخيراً مع الفريق الذي أقنعه بوجهة نظره، وهو المؤيِّد لـ«ضربة ويكيليكس».
يبدأ دالتون بمرافعة عن أهمية الشفافية التي تسمح بمحاسبة الحكومات، مشيراً إلى أن التسريبات أعطت المواطنين حقوقاً جديدة، ووضعت الحكومات قيد المحاسبة الشعبية، وهو ما سيدفعها تلقائياً إلى اتخاذ قرارات سليمة ومسؤولة. ويوضح كيف كشفت هذه التسريبات أنّ الحكومات كانت ترتكب الجرائم باسم مواطنيها، مدافعاً عما فعله أسانج وزملاؤه على قاعدة أنه ليس سرقة ولا إرهاباً، بل بتعلق بحرية الوصول إلى المعلومات.
أما روس، وبعدما عرض تجربته العراقية، ردّ تهمة ارتكاب الجريمة المنسوبة إلى «ويكيليكس»، موجهاً إياها إلى الحكومات الغربية التي ادّعت أن العراق يمتلك أسلحة دمار شامل ويرعى الإرهاب. ونسف المفهوم القائل بأن خصوصية الحكومات من ضرورات الأمن القومي، لافتاً إلى أن هذه الخصوصية (المعرف عنها بالسرية)، «لا تكتسبها الحكومة بطريقة آلية، فالشعب هو من يعطي الثقة، وإذا تصرفت الحكومة بنحو سيئ تخسر هذه الثقة».
في المقابل، رأى فورد أن السرية عامل أساسي في العلاقات الدبلوماسية، متهماً أسانج بتدمير مفهوم السياسة فيما يبرّر فعلته بالادعاء أنه يساعد الشعب الأميركي. وفي سياق الدفاع عن أبلسة أسانج وموقعه، تساءل غيلمور: «هل تستحق الشهرة تدمير حياة أشخاص؟»، ليخلص إلى أن التسريبات «ستدفع الحكومات إلى العمل على الاختباء بنحو أفضل». حتى إن الدبلوماسي الكندي السابق زايد على المعسكر الأميركي الرسمي الساعي إلى التخلص من أسانج وموقعه، عندما وضع التسريبات في خانة «الشبيهة بأسلحة الدمار الشامل من حيث خطورتها على النظام الدبلوماسي برمّته».
الشباب ـــــ الضيوف تفاعلوا بحماسة مع الجدل، وطرحوا أسئلة على الفريقين، حاولوا من خلالها الدفاع عن التسريبات أو مهاجمتها. أسئلة بعض الحاضرين من أفغانستان والسودان واليمن كانت غريبة، إذ إن عدداً كبيراً منها كان ضد التسريبات، لأنها «عرّضت الكثيرين للخطر في أفغانستان».
على كل حال، مثّل المعسكر المناهض لتسريبات «ويكيليكس» أقلية بين الحضور، بدليل أنه، في مقابل تشديد البعض على خطورة الحقيقة في بعض الأحيان، طُرحَت آراء عديدة تذهب في اتجاه أنه لولا تسريبات ويكيليكس، لما فُضحت الحكومات التي تكذب على مواطنيها. بالمحصّلة، ظهر أن عدداً كبيراً من الشباب العربي والإسلامي الذي استضافته الدوحة متنبّه لحقيقة أن إنجاز أسانج ورجاله «كشف الوجه الآخر من الحقيقة التي يحاولون طمسها، لا سيما في فلسطين والعراق وأفغانستان». حتى إنّ أحد تلامذة المحاضرين المعارضين للتسريبات أحرج أساتذته بتذكيرهم أن «هناك أناساً يموتون بسبب سياسات الحكومات، ألا تكترث لمعرفة ذلك؟».