صباح بيروت يوم الثلاثاء مختلف عن باقي الصباحات الأخرى. رنين الهواتف باكراً يثير قلقاً ليشير إلى حال غريبة عاشتها العاصمة اللبنانية. سريعاً رتبت السيدة أشياء سفرها الى باريس، وسط رنين الهواتف التي تحثّ على ضرورة التعجيل في المغادرة الى المطار. على متن طائرة الخطوط الجوية الفرنسية، وقفت السيدة وكأنها أصيبت بعدوى حبور لا يمكن الشفاء منها. تبتسم للمسافرين على متن الطائرة، وتخبر الجميع أنها تونسية. تحكي قصتها على الملأ. الرئيس السابق زين العابدين بن علي صادر جواز سفرها، وعذّبها رجاله طوال ثلاث سنوات، قبل أن تسلك طريق المنفى الباريسي. ولأنها تحبّ الأزرق المتوسط، وجدت في بيروت بديلاً، فحلّت وأقامت تحت مظلة جنسيتها الفرنسية.
هي تونسية وفرنسية ولبنانية، تتجاور في داخلها الأحلام والهموم. هاتفها لا يتوقف، حتى إن أفراد طاقم الطائرة أخبروها بضرورة التوقف عن الكلام، وحين عرفوا أنها تونسية تحلقوا حولها، فتحوّلت الرحلة الى ما يشبه الاحتفالات التي تشهدها فرنسا بعيد 14 تموز، يوم القضاء على الملكية. لكن الاحتفال هنا هو بـ14 كانون الثاني التونسي. عيد تونسي في الأجواء أنسى اللبنانيين قلقهم، وجعلهم يحلمون ببلد من
ياسمين.
أين تلك الثورة من هذه؟ الطاقم الفرنسي أراد أن يؤكد أن هناك خيطاً متصلاً بين 14 تموز و14 كانون الثاني. الفرنسيون فرحون بالإنجاز التونسي ومدهوشون من حيوية التونسيين التي تفجرت دفعة واحدة مثل ينابيع تتدفق من بين صخور صمّاء.
كان الفرنسيون بحاجة الى صدمة ليروا التونسيين بصورة مختلفة عن الصورة النمطية التي صنعتها العنصرية في العقود الثلاثة الأخيرة. استطاعت الانتفاضة أن تضع الأمور في نصاب مختلف. وصار الفرنسي ينظر إلى التونسي بإعجاب، بعدما كان يرى فيه مهاجراً بائساً ترك بلاده ليبحث عن لقمة خبز. أدرك الفرنسي اليوم أن المعجزة يمكنها أن تكون عربية أيضاً. ومثلما تحوّل الرجل الذي حرق نفسه في ساحة فاتسلافاك في العاصمة التشيكية احتجاجاً على الغزو السوفياتي إلى رمز لربيع براغ، فإن الانتفاضة التونسية سائرة لتصبح جسراً نحو ربيع عربي بالنار واللحم الحي.
لكن السيدة التونسية، التي أبقت هواتفها على صلة بباريس وتونس، كانت تعيش لحظات توجّس، وأسئلة من نوع هل تصل الانتفاضة الى مبتغاها ولا تنحرف عن مسارها؟ ثمّة محاولات لسرقة النصر، وأخرى لتشويهه. ومن الداخل والخارج هناك من يحاول ركوب الموجة ليضع نفسه في صدارة المشهد التونسي الحاضر. بقايا النظام القديم تقاوم، وضحاياه يحاولون أن يتنفسوا لحظات الحرية، وأن يصلوا بالأمل إلى منتهاه. وبين هذا وذاك، هناك من يريد أن يضع للتونسيين سقفاً، ويرسم لهم مساراً يعيدهم إلى بيت
الطاعة.
الثورة الفرنسية، بما هي أنبل حدث في التاريخ، أشعلها المثقفون والعلماء والفلاسفة. تلك الثورة لم تصل إلى هدفها بين يوم وليلة، واستدعت دماءً كثيرة وأربع انتفاضات عمالية لكي تستقرّ وتصبح مكسباً اجتماعياً وإنسانياً. تلك الثورة فتحت باب الوعي العادي، فلم يسكت الفرنسيون منذ ذلك اليوم الأول، وكلما شعروا بأن الجمهورية تجرّ البساط في اتجاهها كانوا ينزلون إلى الشارع ليعيدوها الى روح الثورة الشعبية، ولهذا أسقطوا الزعيم المحرر ديغول.
الشعب التونسي أنجز ما عليه. تحدّى آلة القتل وقدّم ضحايا لكي يطوي الصفحة السوداء. قام بواجبه، وبقيت المهمة الكبرى ملقاة على عاتق النخب السياسية والاقتصادية النقابية والثقافية لإدارة الوضع بعقلانية، وإلا فإن المسألة سوف تتحول الى نكسة وسط مخاوف محلية وإقليمية ودولية.
لحظة الوصول الى باريس تواصل السيدة التونسية اتصالاتها، فيأتيها رأي يقول إن بعض الأوساط الفرنسية تريد عودة بن علي. لا تصاب بالإحباط، بل تشعر بألم شديد، هل ورثة 14 تموز الفرنسي يقبلون بعودة الملك لويس السادس عشر؟ الآباء القدامى أعدموه، لكن التونسيين سمحوا للجنرال بن علي بالهرب. أرادوا أن تكون الثورة بيضاء كالياسمين التونسي الطري والهش وذي الرائحة العبقة والمعدية.
النموذج التونسي محيّر لباريس الرسمية، لكن المعلن غير المضمر، وفي الأوساط الرسمية هناك من تربطه مصالح بالنظام القديم، ويريد المحافظة عليه تحت تبريرات
واهية.
لذا تشتغل أدوات تخويف الشارع من مرحلة ما بعد بن علي، وتلوّح ببعبع حكم الإسلاميين.
وفي المقابل هناك اوساط رسمية ترى الأمر من زاوية مختلفة، وتنظر إلى ارتباك الحكم الفرنسي على أنه محاولة من البعض للعب ورقة تثبيت السائد في العالم العربي، لأن هناك عروشاً كثيرة أينعت وحان قطافها في ليبيا ومصر واليمن.
من 14 تموز الفرنسي إلى 14 كانون الثاني التونسي، الثورة الشعبية أمام نفسها. والتحدي الأساسي هو عبور الفترة الانتقالية من دون أن يتحوّل الحلم إلى
كابوس.