بعد ثلاثة أيام على هروب الرئيس السابق زين العابدين بن علي بات لتونس حكومة وحدة وطنية، مهمّتها الأساسية إنجاز الترتيبات الخاصة بالمرحلة الانتقالية، ووضع البلاد على طريق الاستقرار السياسي والأمني. الأمر البارز في التشكيلة الجديدة هو أن المرحلة الانتقالية أعطت دوراً أساسياً لأنصار العهد القديم، وهؤلاء يمكن حصرهم في فئتين. الأولى حزب التجمع الدستوري الحاكم سابقاً، الذي يعدّ من الناحية الرسمية مليون عضو. والثانية فئة التكنوقراط ورجال المال والإعلام
، الذين استفادوا من النظام السابق، ودخلوا في شراكات عضوية مع مكوّناته، ولهؤلاء امتدادات مالية استثمارية عربية ودولية.
وتبرر أوساط تونسية عدم إقصاء هذه الفئات بمداراة التوازن في المرحلة الانتقالية، وترى أن إبعاد الحزب الحاكم كان من شأنه أن يُحدث هزّة كبيرة تعطف نفسها على ما حصل في العراق بعد إسقاط نظام صدّام حسين، ذلك أن انعكاسات اجتثاث حزب البعث وأنصار النظام ولّدت شعوراً كبيراً بالنقمة، وقادت إلى عنف دموي، لا يزال العراق يعيش على وقعه. وهناك من يرى أن التعامل مع هذه الفئات من منظور تصفية حسابات الماضي، وتحميلها مسؤولية التاريخ الأسود للعهد البائد، من شأنه أن يفتح الباب أمام قوى خارجية للعب أوراق هز استقرار تونس. وهنا يشار بوضوح إلى دور محتمل لليبيا، ولا سيما أن العقيد القذافي عبّر عن تعاطفه مع بن علي، وفتحت بلاده حدودها لاستقبال مجموعات أمنيّة محسوبة على النظام السابق. وهناك معلومات تسربت تقول إن القذافي حاول التدخّل في اللحظات الأخيرة لإنقاذ بن علي من السقوط، لكنه لم يتمكّن من ذلك بسبب تسارع وتيرة الأحداث. إشراك الأحزاب المعارضة المعترف بها، في نظر بعض الأوساط، نقلة من زاويتين، الأولى أن جزءاً مهمّاً من المعارضة دخل في تركيب السلطة الجديدة. والزاوية الثانية أن هذا الجزء هو ضمانة أساسية لعدم انحراف المسار العام، بما يسمح بعودة النظام القديم من النافذة، بعدما خرج من الباب الواسع، رغم أن الوزارات التي أسندت إلى المعارضة انحصرت في مجالات خدماتية.
الاقتصار على إشراك هذه الأطراف من دون سائر المعارضة اليسارية والقومية والإسلامية، يطرح مشكلة كبيرة لأنه لا يأخذ في الحساب، من الناحية الفعلية، ممثلي الشارع الأساسيين الذين ساهموا في صنع الانتفاضة. وهؤلاء يعدّون في نظر البعض قوى هامشية، لكنهم أصحاب تاريخ حافل في مقارعة النظام السابق، ومنهم في الأساس حزب العمال الشيوعي، الذي يتزعمه حمة الهمامي، الذي قضى أكثر من 15 عاماً في سجون بن علي، وتعرّضت زوجته راضية النصراوي لتنكيل اضطرها الى إجلاء بناتها إلى فرنسا.
وينحصر موقف هذه القوى في نقطتين، الأولى أنه يجب أن يسبق تأليف حكومة الوحدة الوطنية التوافق على دستور جديد، يحدث قطيعة كلية مع العهد البائد. والنقطة الثانية أن هؤلاء يعارضون معارضة قاطعة أي مشاركة لرموز النظام القديم، بما في ذلك استخدام الآلية الدستورية التي اتُّبعت في تنصيب فؤاد المبزع رئيساً للدولة في الفترة الانتقالية. انطلاقاً من ذلك، دعت الأحزاب الى اجتماع في السادس والعشرين من الشهر الجاري لإعلان موقف يدعو إلى إسقاط التركيبة التي تتولّى تسيير المرحلة الانتقالية.
بالإضافة الى هؤلاء، تقف مجموعة من الشخصيات التاريخية موقفاً مماثلاً، من أمثال مؤسس حركة الديموقراطيين الاشتراكيين أحمد المستيري، الذي يرى أن الأولوية يجب أن تعطى اليوم لحماية المكاسب التي حقّقتها الثورة الشعبية، وتحصينها من المخاطر الداخلية والخارجية.
القوى المشاركة في الحكومة من المعارضة ترى الأمر في صورة مختلفة، وتؤكد أن طابع المرحلة انتقالي، وأنّ كل ما سيُتّخذ من خطوات خلالها، سيكون بالتشاور مع الأطراف كافة، من داخل الحكومة ومن خارجها، ولن يكون دور الحكومة إلا في إطار إدارة الموقف، وليس الانفراد في القرار.
الجانب الثاني من التجاذبات يتعلّق بالمواقف الإقليمية والدولية، ويمكن التوقف هنا أمام أربعة أطراف بارزة وذات دور مؤثر في المسار التونسي، هي ليبيا وفرنسا والولايات المتحدة وإسرائيل. ليبيا مرشحة ،حسب قراءات متعدّدة، للقيام بدور إقلاق الوضع الجديد، وهناك من يرى أن العقيد القذافي سيعمل على هزّ الاستقرار التونسي، لكي يوحي للشعب الليبي أن التغيير هو صنو الفوضى، والبديل هو استمرار النظام الأمني.
الموقف الفرنسي حاول تدارك النتائج الكارثية لسوء التقدير، من خلال رفض استقبال بن علي والطلب إلى أفراد أسرته مغادرة الأراضي الفرنسية. إلا أن نقاشاً يدور في الدوائر العليا، يرتكز على أن موقف باريس تجاوز سوء التقدير الى ارتكاب خطأ كبير، بالنظر الى أهمية الموقع التونسي بالنسبة إلى فرنسا. وتسرّب من دوائر فرنسية أن الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي ليس من أنصار اجتثاث نظام بن علي، ويرى ضرورة المحافظة على بعض مرتكزاته التي تتمثل في شراكات مالية دولية واستثمارات أجنبية.
الولايات المتحدة حاولت قطف ثمار الانتصار الشعبي التونسي، حينما سارع الرئيس باراك اوباما الى تحية الشعب التونسي، ودعا الى ضرورة احترام خياراته. وأراد من وراء ذلك الإيحاء أن واشنطن كانت الى جانب حركة الانتفاضة. وما تريده واشنطن من العهد الجديد هو أن تحافظ تونس على التزاماتها حيال جملة من الملفّات، منها التعاون العسكري، ومواصلة الانخراط في الحرب على الإرهاب، والإبقاء على العلاقات المتميزة مع إسرائيل.
أما الدور الإسرائيلي فقد انعكس جانب منه في المواقف الرسمية وتعليقات وسائل الإعلام، وركز بنحو أساسي على إبداء الأسف لسقوط بن علي. وفي واقع الأمر تُعدّ المسألة خسارة لإسرائيل، على مستوى التعاون الأمني، وامتيازات اليهود التونسيين، وتبييض الأموال لمصلحة شركات اسرائيلية، والاستثمارات. وهذا ما يفسر إيداع بن علي قسطاً من ثروته الخاصة في مصارف إسرائيلية، قدّرته مجلة «فوربس» سنة 2008 بخمسة مليارات دولار.