التطورات التونسية كشفت عن حال من الانقسام في فرنسا. فاليمين الحاكم وأحزاب اليسار المعارضة اكتفت لأكثر من أسبوعين بمراقبة الموقف، قبل أن تبرز التباينات في ما بينها منذ مطلع الأسبوع الحالي. موقف اليمين بدأ يتطور شيئاً فشيئاً، من التفهّم إلى القلق حيال ردود فعل حكم زين العابدين بن علي، وذلك تحت مبررات واهية كالحفاظ على الاستقرار. أما اليسار فقد ميّز نفسه، وخصوصاً على صعيد الحزب الاشتراكي، الذي صدر عن رئيس كتلته البرلمانية جان مارك آيرو موقف على درجة من الأهمية، إذ رأى أن رحيل بن علي «أمر لا مفرّ منه». والسؤال الذي طرح في باريس: هل هو خطأ، غباء، أم سوء قراءة للوضع، ما جاء في تصريح وزيرة الخارجية الفرنسية ميشيل إليو ماري، عن استعداد فرنسا لتقديم مساعدة أمنية للدولة التونسية، في الوقت الذي تساقط فيه العشرات من القتلى والمئات من الجرحى؟
تقول الوزيرة: «نقترح أن تسمح مهارة قواتنا الأمنية، المعروفة في العالم بأسره، بحل القضايا الأمنية من هذا النوع. ولهذا السبب نعرض على البلدين (الجزائر وتونس)، في إطار تعاوننا، العمل في هذا الاتجاه لضمان حق التظاهر، وفي الوقت نفسه ضمان الأمن».
وحاول الناطق باسم وزارة الخارجية، برنار فاليرو، التخفيف من الفضيحة، فقال: «إن الأولوية الآن للتهدئة بعد تظاهرات أوقعت قتلى. وقد شدّدت وزيرة الخارجية على ضمان حق التظاهر، وفي الوقت نفسه الحفاظ على الأمن».
تكْمن الخطورة في أن الوزيرة كانت على علم بما تقوله، إذ إنها قرأت الجواب عن سؤال برلماني من نص مكتوب.
مواقف وزراء اليمين ذهبت إلى حدّ الدفاع عن نظام بن علي. ومن الأصوات التي استوقفت الرأي العام التصريح الذي صدر عن وزير الثقافة فريدريك ميتران. وليس سراً أن الوزير صديق قديم للنظام التونسي، ويقضي إجازاته في منزل خاص في مدينة الحمامات الساحلية، ومن هنا لم يكن مستغرباً أن يرى الوضع من زاوية مصلحته الخاصة: «هناك معارضة سياسية (تونسية)، ولكنها لا تعبّر عن نفسها، كما تستطيع أن تفعل لو كانت في أوروبا. ولكن القول إن تونس ديكتاتورية متواطئة، ما يقال عادة، يبدو لي مُبالَغاً فيه». أما وزير الزراعة برونو لومير، فيرى أن الرئيس التونسي يتعرض لسوء فهم، وهو الذي «أنجز الكثير لتونس». وأضاف، كأنه يجهل كل شيء، «قبل الحكم على حكومة أجنبية، من الأفضل التعرّف إلى الوضعية على الأرض، ومعرفة سبب هذا القرار أو ذاك. ليس من حقي تقديم أي نعت للنظام التونسي».
وعلى درجة أخفّ جاء موقف رئيس مجلس الشيوخ الفرنسي، اليميني جيرارد لارشير. فقد دان القمع في تونس، وطالب السلطات التونسية بضبط النفس، فيما الوزير فرنسوا باروان، المقرّب من جاك شيراك، تأسّف للعنف وطالب بالتهدئة، مؤكداً أن «الحوار وحده الذي يتيح تجاوز المشاكل الاقتصادية والاجتماعية».
إفراط نظام بن علي في القتل لم يحرج بعد الموقف الفرنسي الرسمي، حيث كرر رئيس الوزراء فرانسوا فيون لازمة القلق من «الاستخدام غير المتكافئ للعنف»، ودعوة «جميع الأطراف إلى ضبط النفس واختيار طريق الحوار».
وقال فيون، رداً على سؤال خلال مؤتمر صحافي، إثر لقائه في لندن نظيره البريطاني ديفيد كاميرون، «نحن قلقون للغاية من هذا الوضع، من العنف الذي تصاعد منذ بضعة أيام».
وإذ تطرق إلى الإفراج عن بعض المتظاهرين، رأى فيون أنه ينبغي «التقدم في هذا الاتجاه»، مؤكداً أن الحكومة الفرنسية تتدخل لإقناع السلطات التونسية بـ«الالتزام» في هذا الشأن. وقال أيضاً «في ما يتجاوز مشاكل السياسة الداخلية، هناك مشكلة التنمية الاقتصادية، وثمة عمل يمكننا القيام به على المستوى الأوروبي لتوفير مساعدات للتنمية أكثر فاعلية».
وبعدما أخذت تتوالى برقيات الدعم من شبيبة الحزب الاشتراكي الفرنسي للمتظاهرين التونسيين وللشعب التونسي، ضحايا القمع والديكتاتورية، بدأ قادة الحزب يغادرون صمتهم، وشدد الناطق باسم الحزب، بونوا هامون، على «إدانة القمع. إن الجواب السياسي الذي يكمُن في إطلاق النار على الجموع هو أسوأ شيء». وأضاف «لا يمكن الردّ على تطلعات الشبيبة الجزائرية والتونسية إلى العيش الطبيعي والسكن والشغل بالقمع». أما عمدة باريس، الاشتراكي برتراند دولانوي، وهو من مواليد تونس، فقد عبّر عن «قلقه» من الاضطرابات الجارية. ولم يشأ الجهر بمواقفه، مفضّلاً التلميح إلى أن «دعمه للشعب التونسي لا يحصل من خلال تصريحات، بل عبر اتصالات مفيدة بين هذا الطرف وذاك، من خلال التشديد على لغة وموقف لا يتغيّران».
لكنّ الموقف الأكثر حدّة هو الذي صدر أمس عن رئيس الكتلة البرلمانية للحزب الاشتراكي، الذي رأى أن رحيل بن علي «لا مفرّ منه»، مديناً «صمت» فرنسا في مواجهة قمع أعمال الشغب من قبل «نظام فاسد وأمني».
وقال النائب الفرنسي «أريد أن أعبّر عن تضامني مع الشعب التونسي الذي يتمرّد على الظلم الاجتماعي وعلى نظام فاسد وأمني أيضاً. يجب على فرنسا أن تدين القمع، وأنا شخصياً أدين القمع». وأضاف «إنهم يطلقون النار على أناس وهناك قتلى»، وفي فرنسا «لا نرى إلا الصمت».
ورداً على سؤال عمّا إذا كان على الرئيس التونسي مغادرة السلطة، قال «أعتقد أنه أمر لا مفرّ منه. يجب أن يرحل»، لكن في إطار «حل ديموقراطي، لأنه إذا استُبدل بحل أقسى وأكثر استبداداً فسيمثّل ذلك كارثة».
وانتقد النائب الاشتراكي تصريحات وزيرة الخارجية، التي حذرت من «التشهير»، وتحدثت عن تعاون أمني ممكن بين فرنسا وتونس. وقال «هذا هو الخطاب الرسمي للسلطات أمام النواب (...) قول ذلك حيال شعب يعاني أمر غير نزيه». وتابع أن «صوت فرنسا يجب أن يكون خطاباً واضحاً، وهي مرتبكة تماماً اليوم، كما لو أنّ علينا ترتيب ذلك مع بن علي ونظامه».
أما الحزب الشيوعي، فيكفي قراءة صفحات صحيفته «لومانيتي» لمعرفة الموقف المنحاز إلى الشعب التونسي وانتفاضته: «تونس: بن علي يَقْتُل». وفي السياق سار موقف حزب الخضر، الذي دان «القمع الدموي للديكتاتورية التونسية الذي لا يُطاق»، وأن «حكومة تطلق الرصاص الحي على شبيبتها لا يجب أن تحظى بدعم الحكومات الأوروبية».