فيما واصل الجنوبيون أمس، لليوم الثاني على التوالي، تصويتهم على استفتاء تحديد مصير الجنوب لشرعنة الحصول على دولتهم الخاصة، من غير المرجح أن يستطيعوا سريعاً التخلص من العلاقة مع الشمال في ظل وجود عدد من القضايا العالقة، تفرض نفسها سبباً لاستمرار التواصل بين البلدين. هذه القضايا يتخذ بعضها طابعاً سياسياً، مثل قضية المواطنة، أو اقتصادياً على غرار تقاسم النفط وعوائده، التي من المتوقع التوصل إلى معالجتها قبل انتهاء الفترة الانتقالية بين إعلان نتائج الاستفتاء وإقرار الانفصال رسمياً.
أما قضايا ترسيم الحدود والنزاع على منطقة أبيي، فوحدها ستكون قادرة على تحديد طبيعة العلاقات التي ستحكم الشمال والجنوب خلال السنوات المقبلة، على اعتبار أن التوصل إلى حلول سلمية ومرضية كفيل بإرساء التعاون، فيما استمرار الخلافات والعجز عن وضع حد لها سيكون سبباً في تردي العلاقات، وصولاً إلى احتمالات تجدد الحرب.
وحالت الخلافات بين حزب المؤتمر الوطني الحاكم، والحركة الشعبية لتحرير السودان دون إجراء استفتاء أبيي بالتزامن مع استفتاء تحديد مصير الجنوب لاختيار ما إذا كانت تريد البقاء في الشمال أو الانضمام إلى الجنوب، بعد فشل الطرفين في حسم هوية سكان أبيي الذين يحق لهم التصويت.
وتتراجع حالياً حظوظ تنظيم الاستفتاء لمصلحة الاتفاق على صيغة تسمح بالحفاظ على حد أدنى من الحقوق السياسية لقبيلة المسيرية، التي ترى نفسها جزءاً لا يتجزأ من نسيج المنطقة وترفض محاولات قبيلة الدينكا الهادفة إلى تهميشها. لكن يُخشى أن تخرج الأمور عن سيطرة المؤتمر الوطني والحركة، في حال إقدام أي من القبيلتين أحادياً على إعلان انضمامها إلى الشمال أو الجنوب، بعدما وصل التوتر بينهما إلى ذروته خلال الأيام الماضية، وترجم في سلسلة من الاشتباكات أدت إلى مقتل ما لا يقل عن 33 شخصاً، وسط معلومات عن انتشار كثيف لقوات الجيش السوداني والجيش الشعبي في المنطقة استعداداً للأسوأ.
في المقابل، يبدو أن الولايات المتحدة، التي تعتمد الوعود خلال الفترة الأخيرة لكبح أي خطوات تصعيدية لحزب المؤتمر الوطني الحاكم، لن تسمح بإهدار فرصة نجاحها بإيصال استفتاء تقرير مصير الجنوب إلى بر الأمان بسبب أبيي، وسط توقعات بتصعيد ضغوطها على الحزب الوطني والحركة الشعبية لحسم قضية ملكية المنطقة بالدرجة الأولى تمهيداً لمحاولة ترسيم الحدود.
والحدود التي ستنشأ بين الشمال والجنوب، تحتل المرتبة الثانية من حيث الأهمية بين القضايا الخلافية. ونجح الطرفان في ترسيم قرابة 80 في المئة من الحدود التي يبلغ طولها 2000 كيلومتر. وأدى الخلاف على الـ20 في المئة الباقية إلى إيقاف عملية الترسيم، بعدما فشلت محاولة الحكومة السودانية الضغط على الجنوب باشتراط الانتهاء من ترسيم الحدود لإتمام الاستفتاء.
وبعدما حذر الرئيس السوداني عمر البشير قبل أشهر من أن غياب الاتفاق على ترسيم الحدود بين شمال السودان وجنوبه، التي تعتمد على حدود عام 1956، قد يقود إلى نزاع جديد أو إلى نشوء «نقطة ساخنة»، بدا خلال الأيام الماضية أكثر ميلاً إلى اعتماد مبدأ «البال الطويل». وأشار إلى أن مشاكل الحدود بين الدول عادةً ما تحتاج إلى سنوات وربما إلى عقود لتسويتها.
وتتركز الخلافات الحدودية في منطقة جودة بين النيل الأبيض وأعالي النيل، إلى جانب الخلاف على تبعية جبل المقينص، وهو عبارة عن مثلث تشترك فيه ثلاث ولايات، النيل الأبيض حيث معظم أراضي المقينص، وجنوب كردفان وأعالي النيل. وتنبع أهمية المنطقة ممّا تضمه من مشاريع زراعية دفعت البعض إلى وصفها بأنها «سلة غذاء السودان».
كذلك اصطدمت لجنة ترسيم الحدود بالخلاف على حدود منطقة «كاكا» الواقعة بين جنوب كردفان وأعالي النيل، بسبب إصرار الحكومة السودانية على تبعية المنطقة للشمال.
من جهتها، تطالب الحركة الشعبية بمنطقة «كافيا كنجي» أو «حفر النحاس» الواقعة في الجزء الجنوبي الغربي لولاية جنوب دارفور وولاية غرب بحر الغزال الجنوبية، على اعتبار أن المنطقة كانت تتبع لها قبل أن يضمها الرئيس السوداني إبراهيم عبود في الستينيات إلى ولاية جنوب دارفور.
والخلاف على هذه المنطقة يكتسب أهمية مضاعفة. وبالإضافة إلى مساحتها الشاسعة تتميز باحتوائها على ثروات معدنية من النحاس واليورانيوم غير المستخرج إلى جانب النفط. وعلى عكس قضية الحدود، تُعَدّ قضية الديون المترتبة على السودان أقل تعقيداً، نظراً لارتباطها بنحو رئيسي بالدول الدائنة. وفي السياق، يمكن فهم ما نقله الرئيس الأميركي الأسبق، جيمي كارتر، عن عرض الرئيس السوداني عمر البشير، أن يتحمل الشمال كل ديون البلاد في حالة انفصال الجنوب، على عكس تصريحات سابقة للمسؤولين السودانيين كان تصر على ضرورة تحمل حكومة الجنوب جزءاً من الديون، وهو ما كانت ترفضه الحركة الشعبية، على اعتبار أن الديون خصص الجزء الأكبر منها لتمويل النفقات العسكرية خلال الحرب الأهليّة.
وتعول الخرطوم على ضمان التزام الدول الغربية بتعهداتها لتسهيل إدخال السودان في برنامج الإعفاء من الديون في مقابل عدم عرقلة قيام الاستفتاء والاعتراف بانفصال الجنوب.
وضمن هذا الإطار، جاءت زيارة وزير الخارجية السوداني، علي كرتي، إلى فرنسا الأسبوع الماضي حيث لمّح بعد عودته إلى الخرطوم إلى أن الحكومة السودانية قد بدأت بقبض ثمن «المقايضة»، بتأكيده أن «هناك اتصالاً حقيقياً بدأ بين فرنسا والمفوضية الأوروبية في كيفية التحرك معاً لمساعدة السودان في تسوية الديون»، في إشارة إلى الدور المرجح أن يؤديه نادي باريس في خفض ديون السودان.
أما القضية الرابعة بين الشمال والجنوب، فهي النفط. وفيما يقدر إنتاج الجنوب بأكثر من 75 في المئة من نفط السودان، فإن الجنوب لن يكون بمقدوره على الأقل خلال السنتين المقبلتين الاستغناء عن الشمال لتصدير النفط، ما سيجعل الخرطوم تستفيد من رسوم التصدير، على الرغم من عدم الاتفاق حتى اللحظة على الرسوم وكيفية تسديدها.
قضية استراتيجية إضافية يمثّل عدم الاتفاق عليها حافزاً لصراع مرير بين الشمال والسودان، متمثلة في حصة الدولة الوليدة من مياه النيل. والسودان، إلى جانب مصر، هو من دول مصب النيل، وتجمع بين البلدين معاهدة مياه النيل التي يعود تاريخها إلى عام 1959. وبينما منحت المعاهدة مصر حق استغلال 55 مليار متر مكعب من مياه النيل، أقرت بحق السودان بالحصول على 18.5 مليار متر مكعب.
وترى الحكومة السودانية، التي تتوافق مع مصر على رفض إدخال أي تعديل على المعاهدة، أن المرحلة المقبلة تتطلب الاتفاق مع الدولة الوليدة على تقاسم الـ 18.5 مليار مكعب، فيما يُعَدّ موقف الجنوب حتى اللحظة غامضاً وسط خشية من وقوف الجنوب في صف دول المنبع التي تطالب بتعديل الاتفاقية.
القضية الأخيرة العالقة مرتبطة بالجنسية، التي يفترض أن يفقدها الجنوبيون المقيمون في الشمال بعد انتهاء الفترة الانتقالية. وباستثناء أصحاب الحظوة من الجنوبيين، المنتمين إلى حزب المؤتمر الوطني الحاكم، تؤكد الحكومة السودانية موقفها بسحب الجنسية من الجنوبيين عموماً وتسريحهم من وظائفهم الحكومية، التي يشغلون 20 في المئة منها.
إلا أن التداخل بين السكان، وتحديداً في المناطق الحدودية، من المرجح أن يكون سبباً في دفع الشريكين السابقين إلى الموافقة على الاتفاق على تطبيق «الحريات الأربع»، أي حرية الإقامة، التنقل، التملك والعمل بين الشمال والجنوب، بعد رفض الحركة الشعبية لتحرير السودان اقتراح الرئيس عمر البشير بإقامة اتحاد فدرالي بين البلدين في حال الانفصال.