دولة الحكام الوطنيين قصيرة العمر في مصر، وها هي تدخل أزمتها الكبرى. الرئيس لا يستطيع عبور شارع في قلب العاصمة إلا بإجراءات استثنائية. الشوارع تخلى تماماً، والحرس الجمهوري يتسلّم المكان قبلها بأسبوع، بمعنى ما: الرئيس يعبر موقع تصوير محاصراً بجدار حديدي من الأمن.
هذا ما حدث مثلاً مع أول حركة للرئيس حسني مبارك خارج القصر بعد تفجير كنيسة القديسين بالإسكندرية، ومن ضاحية مصر الجديدة، الى «وسط البلد»، كما توصف منطقة القاهرة الخديوية، حيث دار القضاء العالي، مكان الاحتفال بيوم القضاء.
حركة الرئيس حدث يربك العاصمة، بأجهزتها الأمنية والتشبيك المعقّد للمصالح بين الشعب والحكومة، يتغير شكل الشوارع مؤقتاً، تتوقف الصفقات اليومية بين الحكومة والشعب، وتعاد الشوارع الى وضع الخريطة المثالية، وتختفي تراكمات التحالفات السرية التي تمرر المخالفات والخطايا الإدارية وتضعها في مصاف الواقع اليومي، بداية من تجمعات الباعة الجائلين وحتى سيارات الأمن المركزي التي تعسكر في الشوارع الرئيسية.
المشهد الذي سيراه الرئيس مختلف، لكنه ليس بعيداً عن صناعة طويلة الأمد لدولة تكاد أن تسقط الآن في الفجوة بين صورتها المثالية وواقعها المخيف.
الشوارع، التي سار فيها الرئيس وحيداً، تتحول في النهار الى حديقة حيوانات مفتوحة، تلخص المصير الذي وصلت إليه مشاريع دولة الحكم الوطني.
النموذج كان في القاهرة، دولة الحاكم الوطني، المنتصر على الاستعمار، الخارج من قلب الشعب، لا من ارستقراطية حكمت في ظل القوى الأجنبية.
النموذج وصل الآن الى حافة التحلل، لم يعد القمع مفيداً بالدرجة التي كان عليها في مراحل الزهو بالتحرر من الاستعمار، ولا في الورثة الذين قفزوا على الحكم من داخل القصور، وفي بلاط السلطة، قبل أن تتحول مشاريع الحكم الوطني الى دول بالمعنى الحديث.
الاستبداد كان الصناعة الثقيلة لهذه الأنظمة، لكنه لم يعد بفائدته القديمة، حيث وصلت الشيخوخة الى قلب الأنظمة ومراكزها الأساسية، حيث كانت آليات الهيمنة تضعف في مقابل توحش ماكينات السيطرة.
الأنظمة، بعيداً عن احتفال التخلص من الاستعمار والحكم الفاسد، فقدت بالتدريج خطاب إقناعها، وخاصة بعد الهزائم العسكرية والسياسية، وظهور فشلها في تكوين آليات حكم ومؤسسات دولة، والاكتفاء بحاشية تحيط بالرئيس المنتصر في «حروب القصر» تختلف بين القاهرة وتونس والجزائر في التفاصيل، لكنها تلتقي عند أن شرعية الانتصار كانت قوة الغالب والمسيطر.
في القاهرة، يسير الرئيس بعد إخلاء الشعب من طريقه، في استعراض يقام على أطلال «دولة» ظلت تحت الإنشاء منذ اقتناص الضباط الصغار في تموز ١٩٥٢ السلطة، ومصادرتهم المجال السياسي، لأنهم بلا سند اجتماعي أو سياسي، وبلا خبرات في الحكم، وتسيّدهم مبدأ التجريب: «التجربة والخطأ» باعتباره «خصوصية» في بناء السلطة.
تفجير كنيسة القديسين، رمز لهذه الأطلال، فالدولة التي قادت المنطقة الى أفكار التنوير، تدخل عصر القتل على الهوية، ويفشل جهازها الوحيد الفعال: الأمن، في تحقيق الأمن بمعناه الشخصي.
التفجير فشل أمني، لكنه ليس مجرد موجة جديدة من الإرهاب، أو مجانين الله المهووسين بفكرة: تفجير المجتمع من أجل تطهيره من الذنوب والمعاصي.
فكرة التفجير ليست عابرة، إنها وسيلة موجودة في لاوعي المجتمع، تقال أحياناً على سبيل الدعابة: «نحتاج الى نسف هذا البلد وهذا الشعب، لكي نبدأ على نظافة».
البداية من جديد فكرة انقلابية، تسيطر على الخيال المشغول بالأحوال العامة، الإسلامي يريد إمارة إسلامية، والمسيحي يحلم باتّساع الكنيسة وامتداد أسوارها ليضمن الحماية الأبدية، والرومانسيون يحلمون بغمضة عين تصبح مصر «قطعة من أوروبا».
أحلام مجهضة كلها، لكنها تتضخم لأنها تظل مكبوتة، كقنبلة قد تنفجر بصاحبها في وجه الجميع. الإسلامي يتضخم شعوره النرجسي بأنه لا بد من أن ترفرف أعلام الجيوش الإسلامية على كل أنحاء مصر، وتعود دولة الخلافة، بحنانها مع المسيحيين الضيوف.
والنظام ينشغل بحروبه الداخلية، ويختار خلطة تجمع بين كل الأصباغ الموجودة، ليبدو مع كل خصم هو الأعلى، إسلامي أكثر من الإسلاميين، ومتسامح أكثر من دعاة الوحدة الوطنية، تتكاثر الصبغات والأقنعة، لتبدو وحدها أهرامات في فراغ كبير، هو ما جنته أنظمة ما بعد الاستعمار على المجتمع.
الجناية ليست قليلة، فاقت ما جناه الاستعمار من ناحية التشكيك في قدرة «الحكم الوطني» على بناء دولة حديثة، وفي صناعة عداء بين الدولة والمجتمع. عداء كان مبرراً أيام الاستعمار باعتماده على فكرة أن السلطة صنيعة حكم أجنبي، يريد استغلال ثروات البلد.
النظام لعب في كل ما حاولت «الصياغات الأولى» وضع أساساته من أيام محمد علي: العلاقات الخاصة بماء النيل، التعايش بين المسلمين والمسيحيين، التحالفات مع الدولة المحيطة في الإقليم، الانحيازات الى الأغنياء على حساب قطاعات عريضة من الفقراء.
النظام لعب بطريقة سلبية، أو ببيروقراطية لا عقل لها، في كل هذه الملفات، بما أفقده الهيمنة، ويفقده الآن السيطرة الى حد كبير. الدولة لم يعد لديها هامش مناورة واسع، خطواتها متضاربة، تكتفي فقط باللعب على غريزة الخطر، وتستعيد أساطيرها الغنائية، تخترع فيها «الاستعمار» رغم أن قواته رحلت. هذه الأنظمة لا تعيش من دون استعمار، ورغم أنها من وجهة نظر المجتمع «تابعة» للاستعمار نفسه، فإنها تصرّ على النغمة نفسها التي تحدث شروخاً في الوعي، وتفقد الثقة في كل الخطابات الرسمية، بما فيها خطابات التطمين على «الوحدة الوطنية».
لم يعد القمع يفيد، ولا النظام يملك قدرة على حل الملفات الخطرة، والمستقبل رهن انفجارات فوضى، تتصارع فيها رغبات متعارضة، لا يملك أي منها مشروعاً ولا قدرة على الحل، لكنه يملك قدرات على الشحن، كما يحدث في ردة فعل الإسلاميين الذين يثيرون الخوف على «الهوية الإسلامية» لمصر، والقوميين الذين يبحثون عن رائحة «الموساد»، وكلهم يشعرون بالغيرة من حنان الدولة على الأقباط.
إنها شحنات نهاية لا تنجح الأنظمة في تفاديها، بل في تأجيلها.