تحكم مقاربة دول الجوار لعلاقتها مع جنوب السودان مجموعة من العوامل السياسية والاجتماعية والاقتصادية ذات الطابع التبادلي، وتتفاوت أهميتها من بلد إلى آخر، تبعاً لمدى الارتباط بين الحركة الشعبية لتحرير السودان وهذه الدول من جهة، وبين هذه الدول وحكومة الخرطوم من جهة ثانية.إلا أن دول الجوار، وعلى اختلاف مصالحها، تتفق على ضرورة إتمام استحقاق تقرير مصير جنوب السودان في أجواء سلمية. وتسعى هذا الدول، من خلال العمل على الحد من احتمالات اندلاع أيّ اضطرابات أمنية محتملة داخل الدولة الجديدة المرجح ولادتها، إلى ضمان تحقيق أكثر من هدف في وقت واحد. وقبل كل شيء فهي تخشى أن تسهم أيّ أعمال عنف أو اضطرابات في تدفق أعداد جديدة من اللاجئين السودانيين إليها، فيما لا يزال مئات آلاف الجنوبيين موزعين على أراضيها نتيجة الحرب الأهلية، التي هجّرت أربعة ملايين شخص.
وإلى جانب المخاوف من موجة لجوء جديدة، ترى دول الجوار في الانفصال السلمي مرحلة أوّلية ستمسح بضمان التوصل إلى تفاهمات مع الدولة الجديدة، على تسوية الخلافات الحدودية وضمان عدم تحويلها إلى عامل مغذٍّ للصدامات، التي تندلع باستمرار بين بعض القبائل الحدودية.
كذلك تُعدّ المخاوف من انتقال عدوى حق تقرير المصير وتصديره إلى الدول الأفريقية المجاورة، الغنية بالمشاكل الإثنية والقبلية، هاجساً مشتركاً لدى دول الجوار، فيما تترقب هذه الدول، وتحديداً دول منبع النيل المتمثلة في إثيوبيا، كينيا، تنزانيا، أوغندا، الكونغو، رواندا وبورندي، ولادة الدولة الجنوبية لإعادة طرح تقاسم مياه النهر مع دولتي المصب مصر والسودان. وتؤدّي بحيرات جنوب السودان دوراً أساسياً في تغذية مياه النيل، وبالتالي لن يكون بإمكان الشمال أو مصر تجاهل مطالب دولة الجنوب، التي لا مفر من مرور النيل عبر أراضيها.
وفيما تعدّ أفريقيا الوسطى والكونغو أقل الدول تدخلاً في الشأن السوداني عموماً، والجنوبي خصوصاً، بسبب وجود ما يكفي لدى البلدين من مشاكل يحاولان حلها، فإن إثيوبيا وكينيا وأوغندا تعد من أكثر الدول تأثيراً في شؤون الجنوب، ولكل من هذه الدول الثلاث حسابات خاصة. وتربط إثيوبيا بالجنوب علاقة متميزة، نتيجة السنوات الطوال التي أمضاها قادة حركات التمرد الجنوبية، وخصوصاً الشعبية لتحرير السودان في أديس أبابا، التي اتخذوها منطلقاً لتمردهم على الحكومة المركزية في الشمال. ورغم ذلك لا تبدو إثيوبيا متحمسة لانفصال جنوب السودان، إن لم تصل إلى مرحلة إعلان معارضته.
وتسهم الحدود الطويلة بين السودان وإثيوبيا في اختيار الأخيرة الوقوف خلال المرحلة الراهنة على الحياد. فمن ناحية تعدّ الحدود الأطول، وتصل إلى 1606 كيلومترات، ومن ناحية أخرى، فهي تجاور ولايات جنوبية وشمالية في آن واحد، هي الاستوائية وجونقلي وأعالي النيل والنيل الأزرق وسنار والقضارف. وتعدّ الحدود بين جنوب السودان وإثيوبيا الأكثر غنى بالتداخل القبلي ليصل عدد القبائل السودانية والإثيوبية على جانبي الحدود إلى65، أبرزها قبيلتا الأنواك والنوير. ويعزز هذا التداخل خشية إثيوبيا من احتمالات فتح انفصال الجنوب المجال أمام ارتفاع أصوات مطالبة بحق تقرير المصير، وتكرار سيناريو انفصال اريتريا، الذي لا تزال إثيوبيا تعيش حتى اليوم تداعياته السلبية، بعدما حوّلها إلى دولة حبيسة من دون منفذ بحري، ما حتّم عليها تحسين علاقاتها مع دول الجوار، بما في ذلك رسم خريطة جديدة للتعامل مع حكومة الخرطوم.
وترى إثيوبيا أن دولة الجنوب الوليدة تفتقر إلى مقومات الدولة القوية، الأمر الذي سيضعها أمام مجموعة من التحديات المؤثرة في أمنها القومي، بإضافة دولة فاشلة جديدة إلى جوارها بعد الصومال واريتريا.
أما الإيجابية الوحيدة التي تراها إثيوبيا في الانفصال، فتتمثل في توقعاتها بأن ولادة دولة مستقلة في الجنوب الغني بالمياه، ستعزّز موقفها في مواجهة السودان ومصر بشأن مياه النيل، ولا سيما أن دولة الجنوب لن تتردد في دعم إثيوبيا، التي كثيراً ما أدّت دوراً رئيسياً في تأمين تسليح حكومة الجنوب، وتدريب الجيش الشعبي على مر العقود الثلاثة الماضية.
وفي مقابل اتخاذ إثيوبيا موقفاً حيادياً، تجاهر أوغندا بدعمها للانفصال، متعهدةً أنها ستعمل على حماية الجنوب. وقد أسهمت العلاقة الوطيدة بين زعيم الحركة الشعبية لتحرير السودان السابق، جون قرنق، والرئيس يوري موسفيني في اتخاذ التعاون بين الحركة وكمبالا بعداً استراتيجياً، وصولاً إلى أداء كمبالا دور الممثل الدبلوماسي للجنوب في المحافل الدولية، للترويج لضرورة تأمين دعم دولي لخيار الانفصال.
ورغم ما قد يمثّله الانفصال من تهديد لأمنها القومي، في ظل رغبات الأقليات الموجودة في شمال أوغندا في الانفصال، فإن حسابات الدولة تنطلق في مقاربتها لانفصال الجنوب، من مبررات اقتصادية بالدرجة الأولى. ويعزو عدد من الخبراء الدعم الأوغندي للجنوب إلى مطامع نفطية، لتعويل كمبالا على استيراد النفط الجنوبي لخفض تكلفته على اقتصادها.
كذلك يعدّ السوق في جنوب السودان أهم مركز لتصدير البضائع الأوغندية، التي تضاعَف حجمها ثلاث مرات منذ توقيع اتفاق السلام. وفيما تخطت قيمة البضائع الأوغندية المصدّرة بطريقة قانونية إلى جنوب السودان 250 مليون دولار، تشير التقديرات إلى أن حجم التهريب بين البلدين وصل في 2008 إلى نحو 900 مليون دولار. وترى كمبالا في جوبا وجوارها سوق عمل واعداً، وملاذاً للعمالة الأوغندية، وحلاً لمشكلة البطالة فيها.
وقد لخّص قبل أيام أحد ضباط الجيش الأوغندي مصالح بلاده في جنوب السودان بالقول «نحن نراقب الحدود لأننا نمتلك في جنوب السودان مجتمع رجال أعمال أوغندياً يحتاج إلى الحماية»، موضحاً أن دور الجيش لن يتوقف عند رصد حالة الحدود، بل الاستعداد أيضاً لحماية المدنيين السودانيين الذين لن يشعروا بالأمان، إذا أعقبت نتائج استفتاء الجنوب فوضى. ومما يسهم في تشدد الموقف الأوغندي الداعم للانفصال، العداء القائم مع الخرطوم، وإدارك كمبالا أنّ انفصال الجنوب سيكوّن منطقة عازلة بينها وبين شمال السودان، وسيؤدي إلى تخليصها من هاجس دعم الحكومة السودانية لمتمردي جيش الرب، وسط اعتقاد واسع بأن الخرطوم تدعم أيضاً حركة غرب النيل الأوغندية المتمردة، وحركة القوى الديموقراطية، كرد على الدعم الأوغندي للحركة الشعبية لتحرير السودان.
أما كينيا، فاستبَقت الانفصال الرسمي بتعزيز روابطها الاقتصادية والتجارية مع جنوب السودان. ووفقاً لتقرير أعدّه مركز الأزمات الدولية، تبرز كينيا بوصفها «المستفيدة الأولى من الظهور في السوق الجديد الواسع في جنوب السودان، لأنّ البنى التحتية الرئيسية لهذا البلد في حاجة إلى الانخراط تجارياً مع العالم، بما في ذلك التأثير المحتمل لتصدير النفط الى الدول المجاورة عند استقلال الجنوب».
وفي إطار النظر إليها بوصفها ممراً بديلاً لتقليل اعتماد الجنوب على الشمال في حال تردي العلاقة بين الطرفين، تلقّت كينيا دعم الصين الحريصة على الحفاظ على استثماراتها في الجنوب، لتمويل بناء الميناء البحري في لامو، على أن يشمل المشروع بناء مصفاة لتكرير النفط، ترتبط مع جوبا بخط أنبوب نفطي يبلغ 1400 كيلومتر، وبناء خط لسكة حديد يربط عاصمة جنوب السودان مع مومباسا عبر كمبالا. وترى كينيا في جنوب السودان فرصة ذهبية لتوسيع تجارتها باتحاه عدد من الدول الأفريقية، ومن بينها الكونغو وأفريقيا الوسطى.
إن غلبة الطابع الاقتصادي على المصالح الكينية في جنوب السودان، لا تخفي دور نيروبي في دعم الحركة الشعبية. فمنذ طردهم من الأراضي الإثيوبية عام 1991، وجد قادة الحركة في نيروبي ملاذاً آمناً للإقامة، لتتحول كينيا إلى أبرز الدول المساهمة في تقديم المساعدات العسكرية إلى الجنوب، إلى جانب إدارتها برامج متعددة لتدريب موظفي الخدمة المدنية. وسلطت وثائق ويكيليكس أخيراً الضوء على جانب من صفقات شراء الأسلحة التي يتولى الجيش الكيني إتمامها لمصلحة حكومة الجنوب، بما في ذلك أسلحة ثقيلة استعداداً لاحتمالات اندلاع حرب جديدة بين الشمال والجنوب.
وعلى عكس العديد من دول الجوار، لم يمنع الدعم المتواصل للحركة الشعبية نيروبي من الحفاظ على علاقات حسنة مع الخرطوم، ما جعل منها مقراً شبه دائم لمفاوضات السلام بين الحكومة السودانية والحركة الشعبية، أفضت في نهاية المطاف إلى توقيع اتفاقية السلام في نيفاشا.
وفي مقابل حماسة معظم الدول المجاورة لانفصال الجنوب، تتخذ الدول المجاورة لشمال السودان، وتحديداً اريتريا وتشاد، مواقف رافضة للانفصال، فيما كان التذبذب سيد الموقف الليبي، وحكراً على تصريحات متناقضة للزعيم معمر القذافي، تدعو إلى الانفصال أمام مسؤولي الحركة الشعبية، وتشدد على ضرورة الوحدة أمام مسؤولي حكومة الخرطوم.
أما اريتريا، فتوصلت منذ عام 2009 إلى أن انفصال الجنوب أمر غير مجدٍ، رغم الروابط التي كانت تجمع الحركة الشعبية بالنظام الإريتري، وتخللها دعم عسكري في فترة توتر العلاقة مع الخرطوم. وتنطلق اريتريا في موقفها من اعتقاد لديها بأن حكومة الجنوب أثبتت عجزها خلال الفترة الانتقالية، عن بناء مقومات دولة مستقلة ناجحة، بسبب استشراء الفساد والمحسوبيات في داخلها.
أخيراً، أسهم تقارب تشاد، التي تستضيف في أراضيها قرابة 300 ألف لاجئ سوداني، مع الخرطوم منذ العام الماضي، في تخليها عن موقف الحياد والانحياز للدعوة، إلى إيجاد حل بديل يغني عن تقسيم السودان، على اعتبار أن الحدث «سيؤثر في القارة الأفريقية بأكملها ويمس دولاً أخرى».


الأمم المتحدة تحذر من تشريد الجنوبيين


رجّحت الأمم المتحدة احتمال فرار مئات الألوف من السودانيين إلى دول الجوار، في حال تجدد الحرب بين الشمال والجنوب، أو اندلاع أعمال عنف بعد الاستفتاء على تحديد مصير جنوب السودان. ووضع مكتب مفوض الأمم المتحدة السامي لشؤون اللاجئين، خططاً طارئة تشير إلى إمكان لجوء 100 ألف من جنوب السودان إلى أوغندا، و100 ألف آخرين إلى كينيا، في مقابل 80 ألفاً الى إثيوبيا و50 ألفاً إلى مصر عام 2011 فقط. وبعدما أعرب عن أمله في «ألا تحدث في السودان حرب شاملة لأن هذا أسوأ سيناريو يمكن أن نفكر فيه»، قال الممثل الإقليمي لمفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، محمد ديري، «بالقطع هناك شعور بأن شكلاً من أشكال التشريد قد يحدث من جنوب السودان الى الدول المجاورة طلباً للجوء».
كذلك حذر ديري من أن مشاكل أمنية بعد الاستفتاء قد تدفع البعض من بين نحو 1.5 مليون سوداني جنوبي يعيشون في العاصمة الخرطوم وحولها الى الفرار شمالاً إلى مصر.
(رويترز)