الخرطوم| ما انفك التلفزيون الرسمي السوداني هذه الأيام يُذكّر بوصية الأجداد التي تحض على المحافظة على أرض الوطن. وصية كانت ستبدو طبيعية في مناسبة الذكرى الـ55 لاستقلال السودان أول من أمس، غير أن المناخ العام في البلد يجعل المناسبة تلامس وتراً حساساً لدى الشماليين بسبب تزامنها مع استطلاعات رأي تشير إلى أن انفصال الجنوب أضحى مسألة وقت.
وفيما تسود حسرة بين الوحدويين مع اقتراب موعد التاسع من الشهر الجاري، يعتقد البعض أن الحكومة الحالية تعلم ما تفعل واتخذت هذا القرار «التاريخي» لمصلحة الشعب السوداني.
ويؤيد محمد علي، الذي يعمل في حقل التعليم، بشدة انفصال الجنوب، باعتبار أن الشمال «سينزاح عن أكتافه حملٌ ثقيلٌ ظل ينوء به طوال 55 عاماً». ويرى أن اتفاقية نيفاشا التي أوقفت الحرب، أعطت الجنوبيين أكثر مما يستحقون. وفي لهجة لا تخلو من ثقه وتحدٍّ، يقول: «فليذهبوا وينشئوا دولتهم، وسنرى كيف سيمزقها الاقتتال القبلي».
ولأن معظم الشماليين، في رأيه، مع الانفصال، فإن محمد علي يستبعد نشوء مشاكل في فترة الاستفتاء؛ لأن عناصر الصراع غير مكتملة. فالوحدويون في الشمال من وجهة نظره قلة، ولن يكون لهم تأثير في الشارع العام حال إعلان الانفصال. أما الجنوبيون الذين آثروا البقاء شمالاً، فإن إعلان الانفصال لن يحرك فيهم ساكناً، باعتبار أنهم اختاروا البقاء بإرادتهم.
وفي مقابل اطمئنان محمد علي، هناك مخاوف جمة وسط الشارع السوداني الشمالي من أن تقود نتيجة الاستفتاء إلى أحداث عنف وشغب مشابهة لما شهدته الولايات الشمالية في «الاثنين الاسود» يوم مصرع رئيس الحركة الشعبية جون قرنق. وسجل التاريخ وقتذاك أول صدام مباشر بين الشماليين والجنوبيين خارج الجنوب.
الدكتور عصام لا يخفي علامات الغضب على وجهه وفي نبرات صوته، وهو يتحدث عن عدم جدوى تمسك المؤتمر الوطني بالوحدة. وتساءل: «ماذا جنينا من 45 عاماً من الوحدة غير صرف أموال من دون عائد». ويرى الرجل الستيني أن مساحة السودان الشاسعة، مليون ميل مربع، «سببت عدم تنمية الشمال وتشتت الموارد الاقتصادية على أطراف لا فائدة ترجى منها».
وبعقلية اقتصادية أيضاً، يستبعد نشوء حرب بين الشمال والجنوب بعد الانفصال؛ فهو يرى أن الجنوب لن يلجأ إلى الحرب، وخصوصاً بسبب النزاع على أبيي، لأنه إذا بادرت الحركة الشعبية بشنّ هجوم على القواعد العسكرية على حدود المنطقة، فإن الجيش السوداني سيُشعل النار في آبار للبترول.
من جهتها، تؤيد علية الحسن، التي تعمل في إحدى المدارس بالأطراف الشمالية لولاية الخرطوم، الانفصال، بعدما رأت أن اتفاقية السلام التي نصت على تخصيص ما بين 20 و30 في المئة من وظائف الخدمة المدنية لأبناء الجنوب، حرمت الشماليين وظائف هم أحق بالحصول عليها.
وتقول الحسن: «نعم، أنا مع انفصال الجنوب حتى نستفيد من مقاعدهم التي شغلوها طوال الأعوام الستة الماضية»، قبل أن تضيف: «أبناء الشمال أحوج إلى هذه الوظائف، مع تفشي ظاهرة البطالة».
في المقابل، يرفض قتادة، الذي يعمل في أحد المستشفيات الخاصة بالخرطوم، الانفصال، من دون أن يخفي توجسه من تجدد الحرب. ويرى قتادة، الذي خدم بصفة ضابط في الجيش السوداني في مطلع تسعينيات القرن الماضي وتنقل بحكم عمله السابق في معظم المدن الجنوبية، أن الآبار النفطية المشتركة بين الشمال والجنوب على الشريط الحدودي «ستسبب نزاعاً لن ينتهي بجفافها من النفط».
ويبرر قتادة موقفه الرافض للانفصال بالحديث عن الثروات الطبيعية الهائلة الموجودة في الشمال. وبعدما رأى أن أهل الشمال لا يدركون قيمتها، يلقي قتادة باللوم على سوء تخطيط الحكومات المتعاقبة في حرمان الشمال الاستفادة من ثروات الجنوب منذ الاستقلال عام 1956.
كذلك فإن الخبرة العسكرية لابن الثامنة والثلاثين جعلته ينظر إلى انفصال الجنوب من ناحية تأثيره على الأمن القومي للسودان. فهو يرى أن دولة الجنوب ستكون دولة محتلة من كل ذي مطامع في ثروتها المعدنية والمائية، وأن الوجود الإسرائيلي في الجنوب سيهدد الشمال. ولا يخفي هواجسه من عدم قدرة الانفصال على وضع حد لتدفق الجنوبيين باتجاه الشمال، ولا سيما أن مناطق التماس الجنوبية ستكون في تخوم الولايات الشمالية. ويعرب عن اعتقاده بأن تلك المناطق ستشهد نزوح أعداد كبيرة من الجنوبين الذين سيفرّون من الصراع القبلي في مناطقهم ويبدأ نزوح جديد من دولة جارة، بعدما كان النزوح داخل حدود وطن واحد.
جيل كامل من السودانيين، الذين لم يعاصروا سوى حكم الرئيس عمر البشير الممتد منذ عام 1989، يوافق على عدم تحميل الحكومة وزر الانفصال. وهو الجيل نفسه الذي نعم بخيرات البترول بعد استخراجه في منتصف العقد الماضي، ما يجعله يشعر بالامتنان لوطن يصفه بالمعطاء، لكن شرط اكتمال خريطته.
ولا يعفي هذا الجيل نفسه من المسؤولية التاريخية عن انفصال الجنوب، ومن بينهم سلمى المبارك، التي تعمل مهندسة في إحدى شركات الكهرباء في الخرطوم. وبعدما تحدثت بحزن عن خريطة سيذهب نصفها الجنوبي، تساءلت سلمى: «ماذا سنقول للأجيال المقبلة حينما يسألوننا ماذا فعلنا للسودان حتى لا ينفصل»، قبل أن توقف حديثها بعدما حالت الغصة دون مواصلة الكلام، وهي تدرك عدم امتلاك جواب شاف لتساؤلها.