دمشق | أحدثت رواية «أم سعد ــ 1969»، التي أنجزها الكاتب الفلسطيني الشهيد غسان كنفاني قبل ثلاثة أعوام من اغتياله في بيروت، نقلة نوعية في مفهوم الأدب المقاوم، وتحولت عبارة أم سعد «خيمة عن خيمة بتفرق» إلى مثال وعبرة، يقتدي بها اللاجئون الفلسطينيون في رحلة شتاتهم ومعاناتهم الطويلة، المستمرة فصولها منذ نكبة عام 48 حتى اللحظة. تلخص الرواية الفكرة القائلة: كانوا يقولون الفلسطيني اللاجئ، صاروا يقولون الفلسطيني الفدائي. وتتضح بوادر ثورة الفلسطيني على صورته كإنسان ضعيف سُلب وطنه منه في ليلة «ما فيها لا ضو قمر ولا ضمير عربي ولا من يحزنون»، كما تقول أم سعد في الرواية التي خلدت اسمها. ما يؤكد قسوة وتراجيدية كلمات كنفاني الأخيرة، هو استمرار مشهد نزوح آلاف العائلات الفلسطينية والسورية على حد سواء من مخيم اليرموك، في الليل الدامس وساعات الصباح الباكر من يوم أمس، عراة حفاة، لا يحملون معهم سوى «بقجهم» الفقيرة، قبل أن يصلوا إلى مخيمات لجوء أخرى لا تزال تعيش حالة هدوء نسبي، مثل مخيمات السبينة وجرمانا وخان الشيح الذي كان له النصيب الأكبر من أعداد النازحين.
«أحصينا 12500 عائلة نزحت إلى مخيم خان الشيح قبل أحداث اليرموك الأخيرة. أما الآن فمن الصعب حقاً تقديم إحصائية أولية تبين أعداد النازحين الواصلين إلى المخيم في الـ48 ساعة الماضية. حركة وصول النازحين مستمرة حتى الساعة، وبكثافة لا يمكن تصورها»، يقول لـ«الأخبار» أبو هاني (44 عاماً)، مسؤول المكتب الإعلامي في أحد فصائل المقاومة الفلسطينية، والذي تفرّغ حالياً بشكل كامل لتنظيم عملية إيواء ومساعدة آلاف الأسر النازحة. ويضيف «فتح مسجد الهدى أبوابه لاستقبال مئات النازحين، كما هي الحال مع الثانوية الشرعية التي فضّلنا أن تكون مكاناً لإيواء النساء والأطفال الصغار، لكونها المكان الوحيد الذي يحتوي على وسائل تدفئة لا تزال قادرة على العمل». كذلك يسارع شباب مخيم خان الشيح إلى تنظيم أنفسهم في مجموعات، للعمل على مساعدة النازحين، وتوزيع المساعدات المادية المختلفة من البطانيات، ومستلزمات الأطفال والرضع، التي قدمتها مؤسسة «عائدون» وعدد من فصائل المقاومة الفلسطينية.
لكن «مجمل المساعدات الواصلة إلى المخيم حتى اللحظة لا تلبي احتياجات 10 في المئة من أعداد النازحين الكبيرة جداً. ربما سنشهد أزمة إنسانية حقيقية في الأيام القليلة القادمة»، يؤكد نزار (27 عاماً)، أحد شباب التطوع الميداني، مشيراً الى وصول 1000 بطانية من إحدى المؤسسات الفلسطينية. ويضيف «ما الذي يمكن أن يفعله مثل هذا العدد مقابل آلاف النازحين الذين وصلوا إلى المخيم».
آلاف النازحين حشروا في مدارس خان الشيح التابعة لوكالة الأمم المتحدة بعدما علقت هيئتها التدريسية جميع أنشطتها إلى أجل غير مسمى. البعض من معلمي هذه المدارس فضّل عدم العودة إلى بيته، والمساهمة في العمل الإغاثي الميداني.
ويقول أحد المدرسين في مدرسة بئر السبع الإعدادية «أجرينا اتصالاتنا مع وكالة الأمم المتحدة، لإعلامها بالواقع الذي تحولت إليه مدارسنا، وحجم نزوح ومعاناة الواصلين من مخيم اليرموك، وطلبنا منها الإسراع في تقديم المساعدات العينية والإغاثية، لكن لم يصل شيء حتى الآن». ولم يستطع المدرس إخفاء غضبه وسخطه، أمام تجاهل إحدى أهم وأكبر المنظمات الإنسانية العالمية للمعاناة التي يعيشها آلاف النازحين.
فتحت عائلات مخيم خان الشيح أبواب بيوتها لاستقبال الأسر النازحة، «جميع النازحين هم إخوتنا وأهلنا، لكن الأفضلية أعطيت للعائلات من أصحاب أكبر عدد من الأطفال الصغار»، بحسب جهاد (29 عاماً) الذي تحول مع أفراد أسرته جميعاً إلى فريق عمل تطوعي منذ وصول أول النازحين من مخيم اليرموك. ويضيف جهاد «نتقاسم مع إخوتنا النازحين رغيف خبزنا، لكن في الغد لن نجد ما نسدّ به رمقنا جميعاً». فقبل وصول أعداد كبيرة من نازحي أرض مخيم خان الشيح، كانت أزمة رغيف الخبز تتفاقم تدريجياً، كما هي الحال مع غالبية المدن والمناطق السورية. لا وجود لكميات كافية من الطحين، وفي حال تأمينها لأحد أفران المخيم، فلن يجد أصحابه الوقود الضروري لتشغيل آلاته. أما الحلول البديلة مثل تأمين الطعام للنازحين من بيوت المخيم، فهي إجراء مرحلي من الممكن أن يستمر لأيام قليلة فقط.
لم يكن أحد يتوقع مثل هذا السقوط المدوي والسريع لمخيم اليرموك، وخضوعه لسيطرة شبه كاملة لكتائب الجيش الحر، مع كتائب التنظيمات الإسلامية المتشددة. البعض منها حاول الربط بين سقوط المخيم الفلسطيني وتصريحات خالد مشعل، رئيس المكتب السياسي لحركة «حماس»، الذي تعرض لأحداث الحرب السورية في كلمته التي ألقاها في احتفال انتصار غزة الأخير، وبشكل خاص عندما رفع علم الثورة السورية بعد الانتهاء من خطابه. مهما اختلف المحللون والمعلقون السياسيون في قراءاتهم وتحليلاتهم للتطورات التي يشهدها مخيم اليرموك، تبقى مشاهد البؤس واللجوء المضاعف والجوع والبرد، أكثر صدقية وتعبيراً عن معاناة شعب كُتب عليه أن يقضي حياته في عتمة «ما فيها لا ضو قمر ولا ضمير عربي ولا من يحزنون»!