ترقّب الانفراج في الأزمة المصرية يتبدد يوماً بعد يوم؛ بعد نافذة الأمل التي فتحتها المعارضة بانتظار مبادرة من الرئيس محمد مرسي، جاء خطاب الأخير ليشير إلى أن الأفق بات مفتوحاً على سيناريوهات تصعيدية، تحمل الكثير من السوداوية. وما قد تحمله الأيام المقبلة من تطورات، لن يكون مشابهاً على نحو كلّي لما كانت عليه الحال في 25 كانون الثاني/ يناير، أي الثورة التي أطاحت نظام حسني مبارك.
لا بد من التسليم أولاً بأنه لا يمكن البناء على الخط البياني نفسه لمسار الثورة السابقة، بل إن الأمور قد تتجه إلى مآلات لا تحمد عقباها، نظراً إلى الطبيعة المختلفة للقوى المتصارعة على الأرض وقدراتها الشعبية والتنظيمية والإيديولوجية. ومن المؤكد أنه لا يمكن القول إن ثورة على «الحزب الوطني»، ونظام حسني مبارك، من الممكن أن تتكرر ببساطة على «الإخوان المسلمين» والرئيس محمد مرسي.
نقاط الاختلاف جوهرية بين الطرفين والمرحلتين، لعل أبرزها فارق الثقل الشعبي بين «الإخوان» و«الحزب الوطني». فمهما كنت معارضاً لـ «الإخوان» وسياساتهم، لا يمكن القول إن هذا التيار لا يمثل شريحة واسعة جداً جداً من الشعب المصري، تتعدى الثلث في أسوأ الأحوال، من دون ذكر التحالفات التي نسجتها الجماعة مع التيارات الإسلامية الأخرى، لترفع المعدل ربما إلى نصف الشعب أو أكثر، على عكس ما كان عليه الأمر مع حزب مبارك، الذي كان قائماً لمجموعة من المنتفعين ورجال الأعمال، وهو أساساً ما خلق النقمة الشعبية الشاملة عليه. وبالتالي فإن إسقاط محمد مرسي عبر التظاهر، لو كان أمراً ممكناً، سيخلق حالاً من الاقتتال الأهلي في البلاد، وهو ما بدت نذره يوم الأربعاء الماضي، حين سمح «الإخوان» لأنصارهم بالتظاهر أمام قصر الرئاسة في الاتحادية لمواجهة المعتصمين هناك. المواجهات في ذلك الحين اقتصرت، في معظمها، على السلاح الأبيض، لكن الأمور لن تبقى كذلك في حال تطورت الأمور إلى حد محاولة إسقاط مرسي بالقوة، وهو ما بدات إرهاصاته مع الأخبار عن الاشتباكات بالرصاص الحي التي شهدتها بعض المحافظات المصريّة.
مصر في هذه الحال ستكون أمام نموذج لبناني من الاحتراب الأهلي المباشر وغير المباشر. النموذج غير المباشر كان قد بدأ بالتشكّل منذ تولي مرسي رئاسة الجمهورية، وظهور التغوّل الإخواني في السعي إلى الإمساك بمقاليد السلطة وعدم إشراك أي طرف آخر فيها. تغوّل ناتج عن «جوع للحكم» عمره أكثر من ثمانين عاماً حانت، بالنسبة إلى الإخوان، لحظة إسكاته. ومع إصدار محمد مرسي إعلانه الدستوري في الثاني والعشرين من تشرين الثاني الماضي، بات الفرز، لتتحوّل مصر إلى شارعين موالٍ ومعارض لا أمل، حالياً، في التوفيق بينهما. وهو ما يذكّر بصراع الشوارع الذي دار في لبنان منذ 2005 في أعقاب اغتيال رئيس الحكومة رفيق الحريري. غير أن التطورات في أرض الكنانة تبدو متسارعة، لتقود البلاد إلى صراع مباشر مع تطورات دراماتيكية تقود إلى نموذج لبنان في سنوات الحرب الأهليّة الطويلة، وخصوصاً أن بين القوى المتصارعة حالياً، ولا سيما في الجانب الإسلامي، جهاديين سبق أن هددوا باللجوء إلى العنف في حال إسقاط «الشرعية» عن مرسي.
قد يرى البعض أن الجيش ربما يكون الحائل دون تطوّر المشهد إلى هذا الحضيض، إذ إن القوات المسلحة لا تزال في موقف المتفرّج مما يحدث، مع ترقب كثير من المحللين تدخّلاً مباشراً، يحيّد طرفي الصراع عن السلطة ويعيد الجمهورية إلى حضن العسكر تحت مسمّى «حماية السلم الأهلي». سيناريو لا شك يؤخذ في الحسبان، لكنه قد يضع البلاد عند السكة الأولى في الطريق إلى التجربة الجزائرية، ولا سيما أن الإسلاميين وصلوا إلى الحكم عبر صناديق الاقتراع، في سياق مشابه للفوز الإسلامي في انتخابات الجزائر في تسعينيات القرن الماضي، التي ألغتها السلطات. حينها دخلت البلاد في دوامة من العنف والعنف المضاد بين الجيش والإسلاميين، لا تزال تعيش تداعياتها حتى اليوم. مصر سبق أن شهدت مثل تلك الدوامة على نحو مصغر في منتصف الثمانينيات، لكنها ستكون مرشّحة للتوسع إذا تدخّل الجيش في الوقت الحالي، نظراً إلى تبدل الكثير من موازين القوى الإسلاميّة، من دون استبعاد حدوث شقاقات داخل الصف العسكري، الذي بات للإخوان ثقل فيه.
بين مثل هذه السيناريوهات، تبقى فسحة الأمل واردة في إيجاد منفذ من ضمن كمّ المبادرات المطروحة، وعدم إغلاقها بتعنّت الأطراف، ورفض كل منها أي صيغة تنازليّة تحفظ مصير البلاد.