حب في زمن المخيم
بألق غريب أسرّ له ما عرفه عن ثنائية الحب والحرب في بيروت في إحدى ليالي المخيم «الأيلولية» وحتى وقت متأخر. كانت عينا صديقه الكهل تشتعلان. لم يستطع أن يعيد البريق إلى زمن بيروت أو إلى عشيقة صديقه البقاعية. شعر حينها fأنه سيكون جزءا من هذا المشهد الدرامي الذي عاشه مذ كان حديث صديقه الذي يكبره بعقود.
أصوات الرصاص القادمة من الأحياء المجاورة للمخيم تعلو، ومعها يعلو حديث المقاتل القديم عن الجمال البقاعي وعن مخابئ حبه السرية. لا يحرك فيه الخوف ساكناً، وحده الأرق يجد الطريق نحو عينيه الواسعتين. تقترب أصوات الاشتباكات بين المتحاربين، ومعها تُزرع حواجز اسمنتية تفصل للمرة الأولى بينه وبينها. يطلق العنان لضحكته الساخرة. «بيني وبينك سور ورا سور.. وأنا لا مارد ولا عصفور» يردد ما أحب للشيخ إمام.
تطول ليلته تلك راصدا عدد القذائف والشهداء واحتمالات انشغال امرأته عن الاتصال به، هناك كارثة ستحل؛ كيف ذهبت حبيبته إلى أحد أحياء المخيم القريبة من تماس الحرب دون أن تعلمه. وتتمثل أمامه كل القصائد والمدن التي كان يغنيها قبل الحرب. دقات قلبه الصغير تتسارع بين تذكر أول حياته ورائحة البارود القريب في لعبة للوقت لم تعد عابرة.
عادةً لا يشكل حديثه عما عرفه من ثورات قامت ضد الظلم مصدر اهتمام لها. ويدرك بعد وقت أنه اذا ما تعثر بمقطع غنائي «خلي الحر يلاقي الحرة عشاق بدربك يا ثورة» لفرقة العاشقين الفلسطينية من أحد بيوت الأزقة الضيقة فهذا لا يعني أن هناك عاشقا من المخيم يحاول أن يصطاد عشيقته. وإنما عاشق يحن إلى زمن لن يعود.
تكتفي بأن تشرب شغفه بالحياة.. ويكفيها من حديثه ما نال من ظلم عينيها. وها قد ذهب مطر أيلول ــ الذي بلل حديثها معه ــ بها أبعد من ذلك، فأغدق عليها غبطة بعد ليلة همس لها طويلا بأنه يشتهيها كما زخات المطر، وبأن شعرها أطول من ليله الحالك، وأقسى عليه من الحديث عن الموت.
يفتح الحب أبجديته واسعا زمن الحرب.. يقول. ثم يرتعش جسده الأسمر النحيل من صوت قذيفة ضلت طريقها إلى مخيمه. أما هي فرتبت أصوات القذائف بعيدا عن ليلتها القادمة معه، وانتظرته «بكامل مشمشها» كما أراد لها شاعرها على طريقة المعلمة الهندية كماسوترا. خبأت له كثيرا من الكلام عن سنوات خبت في انتظاره، حلوها ومرها، وقصص حب كانت قد قرأتها في زمن مراهقتها.
وعلى مقربة من أصوات القذائف يؤرشف ما قالته له في تلك الليلة، وينام ــ إن استطاع ــ على هدى صوتها. يفتح شباكه واسعا للضوء في هالة هذا الصباح، بعد ليلة أطال فيها حراسة أحلام فتاته... مضى الصباح غريبا فلعبة «العلية» الطفولية لم تعد مفضلة لديه كما كان يفعل، بأن يختلس الوقت ليصعد إلى سطحه الأثري ويعد قهوته معها ويطيرها كما حماماته الدمشقيات، بعد أن احتلت الطائرات زرقة سمائه وأعادت ترتيب المشهد على ايقاع هديرها. واكتفى هذه المرة بمراقبة مسير الطائرات دون الشغف الطفولي الذي كان يراقبها به من قبل.
في غير مكان من أزقة المخيم النحيلة كما هما، يختار عاشقان آخران أن يخطا حبهما ضمن «انتفاضة المرأة في العالم العربي» المنتشرة بصورة لافتة على موقع التواصل الاجتماعي «الفايسبوك» فيهمس لها «لأنك أمي وأختي وحبيبتي وصديقتي وأم أولادي .. لأنك أنا»، تردد صداه «لأني بكملك، متلي متلك كمان بحبك اخترتك لأني حرة».. ويعيدان بذلك انتاج حكاية جديدة لحب في زمن المخيم.
وكأن المخيم يجدد التذكير أنه ليس محطة للحرب والسياسة وحسب، بل محطة للحياة «ما استطاع الفلسطينيون إليها سبيلا». وكأنهما يقولان بأن حب فلسطين الأرض «الأنثى»، وحب الثورة التي هي «أنثى» لا تكتمل فصوله ما لم تتحرر نظرة المجتمع إلى الأنثى عندما تحب ــ من «الاستبداد» ــ. قد يكون محقا من اعتبر بأن الشعر الذي كتب بالمرأة أخطر أشكال المقاومة ضد الاحتلال، وتغدو فلسطين بذلك معنى للحب والكرامة والحرية في آن.
وفي صبيحة العيد وفي مقبرة الشهداء القديمة نقف أيتاماً أمام ما تكتنزه أم الشهيد أنس البرعي من دموع. نجتمع حولها.. تعصف ببالنا آلاف الكلمات لها دون أن تخرج إحداها.. هو العجز عما يقال في مثل هذه اللحظات.. تكفكف دموعها ويقتل دفء عينيها برودة المكان. ربما هو الحب من طراز مختلف تماما.
ونسأل هل كان الفدائيون بارعين في الحب كما في القتال؟ يسبق كلام والد صديقي المحافظ الخمسيني ابتسامته؛ «سقى الله» يجيب. يخشى أن يتم حديثه أمام زوجته الهادئة. بسخرية يكمل «لو كان حظنا في الحرب كما في الحب إذاً لتغيرت الاحتمالات. ربما عدنا مجددا إلى الجليل».
مخيم اليرموك ــــ معتصم أبو خميس