جرمانا | في سوريا يستيقظ الناس متسائلين: «في أيّ منطقة انفجار اليوم؟». لجرمانا، المنطقة الواقعة على تماس مباشر مع العديد من المناطق الساخنة، نصيبها الأكبر من التوقّعات. الانفجار الثامن وقع في منطقة تمثّل مجسّماً صغيراً لبلاد بأكملها، تعايَش سكانها عشرات السنوات على اختلاف طوائفهم، وأعراقهم، وعاداتهم. هُنا حيث كان للعراقيين ملاذهم الأخير من نار انفجارات تحرق وطنهم، استيقظت المنطقة على انفجار سيارة مفخّخة تحتوي على قرابة 10 كلغ من المتفجرات، في حارة المختار قرب دوار الرئيس عند الساعة السادسة والربع صباحاً. وقع عشرات القتلى والجرحى، فيما الأمهات يجهزن أطفالهن للذهاب إلى المدارس. العقلية السائدة في التخطيط لمثل هذه العمليات واضحة، فالانفجار الأول يعقبه انفجار أضخم وأكثر خطورة، يستهدف الجموع المحتشدة لإنقاذ المصابين وإسعافهم. وهذا ما حصل تماماً. الانفجار الثاني عند دوار الرئيس كان الأسوأ، باعتباره أوقع خسائر بشرية هائلة، جعل العدد الإجمالي للقتلى يتضاعف. سبعون عائلة منكوبة في جرمانا وحدها، وأكثر من مئة عائلة بقيت في المستشفيات للاطمئنان إلى الجرحى. المواطنون يهرعون إلى المستشفيات بعدما راجت أخبار عن حاجتها إلى التبرّع بالدم. الانفجار هذه المرة، أيضاً، لم يكن بتفخيخ سيارة أجرة، كما جرت العادة في غالبية التفجيرات، بل وقع باستخدام سيارة مرسيدس عسكرية تحتوي على ما يقارب 15 كلغ، بحسب ما أفادت مصادر لـ«الأخبار». هلع مفاجئ أصاب المنطقة، التي لم تتأثر خلال أشهر الأزمة السورية، ولم تشارك في الحراك رغم العديد من المحاولات لاستنهاضها، فنالت حصتها من الاتهامات والتفجيرات ما لم تنله منطقة أخرى. التعايش في جرمانا حافظ على وجوده. قوائم أسماء شهداء التفجيرات الأخيرة تحوي جميع الطوائف الموجودة في سوريا، وهذا ما تركز عليه صفحات التواصل الاجتماعي في طريقة تناولها الحدث.
لم ينته صباح جرمانا الدامي. هُنا أيضاً مدرستان متجاورتان. زُرع على باب كلّ منهما عبوة ناسفة ما أدى إلى مقتل شخص وجرح العشرات. والزمان: موعد الدوام المدرسي عند الساعة السابعة والنصف صباحاً. أين يهرب سكان المنطقة من الموت المتربص في كلّ مكان؟
أشلاء الجثث سادت الأجواء. التصقت على جدران المنازل المهدمة. بقع الدماء تطغى على كل الألوان. حجم الدمار الذي خلفته الانفجارات لا يصدّق. جدران مبانٍ انهارت بكاملها، والدهشة التي علت الوجوه لا تساعد الناس على التعبير. النساء والرجال يبكون والأطفال يترقبون، وقد اكتست ملامحهم نظرات الصدمة حول الذي قلب صباح جرمانا ظلاماً دامساً، حلّ في قلوب عدد كبير من سكانها من دون أن يفارقهم.
يقف رجل متحدثاً أمام كاميرا إحدى المحطات التلفزيونية. يشرح ما جرى معه باكياً. يقول: «عندما أخرجت زوجتي وابنتي باتجاه الشارع عقب الانفجار الأول، طلبت منهما الابتعاد عن المكان لأعود وأشارك بإسعاف الجرحى». ردّ فعل يجعل الجميع يتساءلون عن دور الإعلام الرسمي في توعية الناس على أساليب التصرف في حالة الانفجارات وسقوط القذائف. الرجل تحدث كيف أبعد زوجته وابنته باتجاه الشارع، ما أدى إلى سقوطهما في الانفجار الثاني الذي لم يتوقعه. ببساطة يروي والدموع تنهمر من عينيه «فدا بشار الأسد!!».
أحد السكان يخرج من مبنى مهدم، ويصرخ متهجماً على الصحافيين الموجودين في موقع التفجير. يحاول طرد كلّ من يحمل كاميرا ولو اضطر إلى استخدام الضرب. العقلية الأمنية لا تزال تحكم السوريين وردود أفعالهم، فعند الأزمات يحاول شخص عادي أو عنصر في اللجان الشعبية ممارسة السلطة على الجميع واستجوابهم عن سبب وجودهم في المكان، غير آبه بهوياتهم، وهدف وجودهم لممارسة أعمالهم. العقل هُنا مغيّب تماماً، والموت هو الحاضر الوحيد. وحدهم الموتى لن ينهضوا لتبرير وجودهم في المكان.
هل من انفجارات مقبلة أيضاً؟ تساؤلات سادت ملامح سكان المنطقة الملتاعين لهول المشاهد التي مروا بها خلال هذا الصباح الدامي. هدوء حذر ينهي ضربة الموت التي هاجمت جرمانا، ما أفسح المجال لنساء متشحات بالسواد قادمات إلى الحيّ المنكوب من بقية الأحياء للاطمئنان إلى ذويهن، بينما ملامحهن تدلّ على تأهبهن للعزاء. لا عزاء ينتظره أهل البلدة التي ودّعت أمانها ووداعتها، وجلست على خطّ من الانفجارات المستمرة.
وفي الحصيلة النهائية لضحايا التفجيرين، قال «المرصد السوري لحقوق الانسان» إنّه «ارتفع إلى 54 شهيداً»، مشيراً إلى أنّ العدد «مرشح للارتفاع بسبب وجود أكثر من 120 جريح، بينهم 23 بحالة خطرة». وأوضح المرصد أن عدد الضحايا «هو الأعلى بين المدنيين يسجَّل جراء تفجير سيارة مفخخة»، وأن من بين القتلى العديد من النساء والأطفال، وأن بعض الجثث «تفحمت» وتحولت أخرى إلى «أشلاء».
من جهته، أفاد الإعلام الرسمي، عن مصدر في وزارة الداخلية، بأنّ حصيلة التفجيرين هي «34 شهيداً، بالإضافة إلى أشلاء مجهولة الهوية في عشرة أغلفة، وإصابة 83 شخصاً بجراح خطيرة». وأشارت وكالة الأنباء الرسمية «سانا» إلى أنّ الهجوم نفذه «ارهابيان انتحاريان» فجرا نفسيهما في سيارتين مفخختين. وذكر مصدر في وزارة الداخلية لوكالة سانا أن حصيلة التفجيرين الإرهابيين 34 شهيداً وأشلاء مجهولة الهوية في 10 أغلفة طبية.
وفي تعليق لها، أعلنت وزارة الخارجية الروسية، في بيان، أنّ موسكو تدين بأشدّ العبارات التفجيرات التي خلّفت عشرات القتلى في مدينة جرمانا بريف دمشق، مشيرةً إلى أنّها «جرائم إرهابية لا يمكن تبريرها». ولفتت الوزارة، في بيانها، إلى أنّ هذه التفجيرات هي «الوسائل التقليدية لمنظمات إرهابية دولية مثل القاعدة». ورأت أنّ «الهدف منها هو نسف أيّ جهد لإرساء استقرار الوضع في سوريا، وتسوية الأزمة بسبل سلمية وسياسية».