أربعون كيلومترا للمكان، وبضع دقات غير منتظمة من الزمان، هي الذخيرة المطلوبة لعبور الشارع الالتفافي قبل الغوص بمستنقع من الحشائش ثم القفز فوق متراس اسمنتي أجاد صقله جيش «الدفاع»، لمنع ضعفاء القلوب من الوصول. عناصر لا يمكن التغاضي عنها للخروج من قلب الضفة الغربية والوصول إلى أي مدينة فلسطينية في الداخل المحتل.
الجدة الشجرة، تلك الحفيدة المنفية المعفية، هي أقدم المدن الفلسطينية وأعرقها. هي من يقطن قعر الجليل ويربط شمال فلسطين بجنوبها. هي من حملت البشارة ونسينا انها عبَقُ البلاد. هي كرمة العنب ومرج القمح، هي أصل اللهجة الفلسطينية، المطرزة بالأحمر والأسود، هي وشاحٌ قرميدي وعيد ميلاد، فألوان المدينة خليط من الحديث والعريق، حتى زرقة ظل شجر التين فيها له رونقه الخاص.
في لحظة هذيان، قرر ذلك المصور الهاوي القفز فوق هواجس تراكمت بقصد او بدونه. فمنهم من قال «ما تروحش! مجنون، إذا بيمسكوك بيمسحوا الأرض فيك»، وقال آخر «يا زلمة الجن الأزرق ما بخليك توصل لهناك». وبرغم ذلك كله، كان لا بد من كسر حاجز الخوف ومحاولة اجتياز الحاجز العسكري، أو الالتفاف حوله أو القفز من فوق الجدار الفاصل. هنا ستكون النتيجة واحدة من عدة احتمالات؛ إما يدان مكبلتان وغرفة مظلمة، أو عيار ناري في مؤخرة الرأس، أو انتصار باهت على بعض المتاريس والكيلومترات.
دقائق، وازدياد ملحوظ في دقات القلب، كانت الختم اللازم على وثيقة السفر لاجتياز غرفة الشائعات، غرفة كانت مجرد شباك طوابع صغير، يرقد فيه موظف هرم اخذ منه نعاس الظهيرة عينيه. من حسن حظي ان موظف الحاجز الاسرائيلي كان جورجي الأصل جاء إلى البلاد مع عائلته عندما كان عمره 15 عاماً وترك حبيبته اليافعة هناك. بعد ساعة، فتى عربي «ضفاوي»، يحمل هوية خضراء، وكاميرا، ولهفة لاكتشاف المكان، يتجول في مدينته المحرمة عليه وعلى أربعة ملايين ونصف مليون فلسطيني ممن يسكنون أراضي الضفة الغربية وقطاع غزة، إلا بتصريح ورضى اسرائيل.
وعند وصوله، أراد اصدقاؤه من سكان المدينة اقتراح بعض «المشاريع» مثل السهر في اشهر حانات المدينة، أو الذهاب إلى شارع «بن غوريون» في حيفا وغيرها. لكن جوابه كان في كل مرة «إذهبوا وانا سأكمل خارطة المكان.. أراكم غدا».
اختار لآلة تصويره شرفة من ثلاث قناطر، وجواً ماطراً، وبدأ برصد احتمالات المكان: «هنا كنيسة مكسورة، وفي البعيد قمر غائب»، «هذا غراب، سأستثنيه من الصورة .. فهو زائل» وكان يرصد الصورة الليلية بكامل غيابها على الرغم من حاجته لفتحة عدسة أكبر لالتقاط ضوء أكثر. فهذه المدينة لها طابعها الخاص في المساء، كأنّ بيوتها أجرام سماوية تدور حول محور واحد، تتجاذب وتتنافر، تصغر وتكبر كبؤبؤ العين مع الوميض. وكان الأزرق الداكن في الصورة أكثر حميمية منه في الصور التي شاهدها بعدسة غيره من المصورين الأجانب.
أمّا صورة صبيحة اليوم التالي فكانت أعمق، كانت صورة مشمشية، وكان يهمس لذاته «سأقوم باضافة أزرق بحري لذلك الظل، وعفوية أكثر للقُرمزي خلف السور القريب، ولازوردي في الأفق البعيد».
كان هذا فقط ما تذكره من زيارته الأولى لمدينة الناصرة، وكان في كل مرة ــ بعدها ــ يزور مدينة عربية من الأراضِي الفلسطينية المحتلة عام 48 يعيد ترتيب المساء بما يليق بجواز سفره، وبعيداً عن شباك التذاكر ذي الموظف النعس الحالم بحسنائه الجورجية التي حتماً ستسلبه البلاد.