التحيات والتقدير الكبير لصمود أبناء غزة وقوى المقاومة بوجه العدوان لن تفيد في جعل النقاش متعامياً عن أسئلة وحقائق تتصل بما حدث. أما الهدنة التي أُعلنت أمس، وعلى أهميتها وضرورتها لوقف آلة القتل الإسرائيلية، فإنها تزيد من الأسئلة المعقدة، وتدل على وجود طبقة كثيفة من الدخان، ليس دخان القصف الذي يرافق التراجع أو الهروب، بل الدخان الذي يقصد به التعمية على مؤشرات تدعو الى القلق على مستقبل القضية الفلسطينية. وفي أحسن الأحوال، تدعو هذه المؤشرات إلى الحذر والتنبه وإلى طرح السؤال حول استراتيجية المقاومة بعد هذا الانتصار. في «يديعوت أحرونوت» أمس، كتب كبير المعلقين ناعوم برنياع مقالاً حول ما يتصل بالمساعي من أجل الهدنة قائلاً: «تحاول الادارة الاميركية أن تستعمل التفاهم لتعزيز المحور السنّي في العالم العربي في مواجهة المحور الشيعي. إن العدو هو إيران الشيعية، وحزب الله وسوريا الأسد اللذان ترعاهما إيران. ويشتمل الحلف السنّي على مصر الإخوان المسلمين وعلى السعودية وتركيا وعلى الأردن في الهامش وعلى السلطة الفلسطينية وإمارات الخليج. وستضطر حماس إلى الاختيار بين إيران ومصر. وإذا كانت إيران تقدم صواريخ ومالاً، فإن مصر ستقدم حصانة من هجوم إسرائيلي وسيادة على غزة وباباً مفتوحاً للعالم».
طبعاً يتحدث الإسرائيليون بشغف عن رهانهم على انضواء مصر في المشروع نفسه. هم يعوّلون بقوة على ربط المساعدات المالية للإدارة المصرية بمواقف سياسية تخدم المحور الداعم لخط التسوية. وفي أميركا أيضاً اهتمام بكسب من تسميهم «المعتدلين» في التيار الإسلامي المنتشر بقوة في البلدان ذات الغالبية السنيّة. ولكنّ ثمة استعجالاً من جانب أميركا ومعها إسرائيل لجعل المكسب يتجاوز هذا الحياد، ودفع الامور الى حدود قطع المقاومة في فلسطين للعلاقة مع إيران وتالياً سوريا وحزب الله، والى استخدام الشرعية الشعبية والنضالية لقوة مثل حماس، في مواجهة الفريق الآخر، باعتبار أن محور إيران ـــ سوريا ـــ حزب الله إنما يحقق نفوذاً عاماً في العالمين العربي والاسلامي بسبب انخراطه في مقاومة الاحتلالين الاميركي والاسرائيلي.
هل هذه التقديرات في مكانها؟
الحقيقة القاسية تشير الى ضرورة الأخذ بهذه الأمور على محمل الجد، والتصرف على أساس أن هناك متغيرات كثيرة حصلت في الموقف العربي عموماً من القضية الفلسطينية، ومن قضية المقاومة نفسها، إذ وجب على تيار المقاومة الإقرار بأنه، في سابقة خطيرة، لم تشهد أي عاصمة عربية تظاهرة جدية واحدة تضامناً مع قطاع غزة. ثم إن وسائل الاعلام العربية النافذة والأكثر انتشاراً تعاملت مع العدوان الاسرائيلي بطريقة لا تتناسب مع حجمه من جهة ولا مع تاريخها المهني في هذا السياق. وأيضاً إن النقاش الكيدي الذي قام بين أنصار محور إيران ـــ سوريا ـــ حزب الله وبين أنصار الطرف الآخر حيال ما يجري في غزة، وشعور المحور الأول بحاجته الى تلقّي الشكر العلني من قوى المقاومة في فلسطين، وتعمّد قادة حماس على وجه الخصوص عدم الإشارة الى الدعم الفعلي لهذا المحور لقوى المقاومة، كل ذلك يدل على مأزق. ومن كان يعتقد أن المعركة مع إسرائيل توحّد الجميع فهو مخطئ، تماماً كمن يعتقد أن الحروب الاسرائيلية من شأنها تخفيف وهج المواجهات في سوريا.
النتيجة هنا لا تتعلق بعملية حسابية على طريقة المعادلة البسيطة. بل هي عملية حسابية وفق مبدأ التضاعف المتوالي، ومصلحة تيار المقاومة تقضي بأن يكون قبول حماس مبدأ الهدنة الطويلة يعني أن حماس تعلن وقف عمليات المقاومة لفترة زمنية غير محدودة، لكن في سياق يقوم على أساس تجنّب شر الآخرين من الأقربين إلى الأبعدين، بينما يجري العمل من دون توقف على تعزيز البنى التحتية العسكرية والبشرية التي تكون مستعدة لمواجهة أخرى في مسيرة التحرر الكامل من الاحتلال. ونجاح هذه الخطوة يتطلب توافقاً فعلياً، لا شكلياً، بين حماس وبين جميع أو مع أبرز فصائل المقاومة الفلسطينية على هذه الاستراتيجية.
لكن المخاطر توجب إثارة الخيارات الأخرى، وهي خيارات مطروحة مع الأسف على طاولة جميع المعنيين، ومنها:
أولاً: أن يكون قبول حماس بهذه الهدنة مندرجاً في السياق السياسي الاقليمي، بمعنى أن تكون حماس قد قبلت، ليس فقط الانتماء الى التنظيم الدولي للإخوان المسلمين، ولو تحت اسم حماس، بل الانتماء الى القواعد النظرية والتكتيكية لهذا التنظيم في الفترة المقبلة. وهي قواعد تقوم على نظرية تحسين مواقع الحكم وتأجيل الأمور الأخرى الى وقت آخر. وإذا كان خطاب المقاومة بعد الانتصار هو البقاء على الزناد والالتزام بقضية المقاومة من جوانبها كافة، فإن هذه الأولوية ليست هي البند الاول نفسه عند الآخرين. والذي نعرفه جيداً، أن أولوية مصر وتركيا والسعودية وآخرين هي أولوية تثبيت الحكم القائم أو المستجد.
ثانياً: أن تسارع أطراف محور تركيا ـــ مصر ـــ الخليج العربي إلى إغراق حماس وأهل غزة بالحنان والحب عن طريقة تدفق كميات هائلة من المواد الداعمة لإعادة بناء القدرات المدنية وتسيير أمور الحياة، وأن تُربَط هذه الخطوة بضمان عدم تعرضها للتدمير مجدداً. وهم في هذا السياق لا يطلبون من حماس توفير ضمانة من إسرائيل، بل يطلبون من حماس التقيد ببرنامج له عنوان نعرفه نحن في لبنان جيداً، ويكرره أنصار هذا المحور من فريق 14 آذار، وهو القائل بـ«تجنّب القيام بأي خطوة قد تأخذها إسرائيل ذريعة للعدوان من جديد».
ثالثاً: إن تورط حماس في هذا الأمر يعني أنها سوف تكون مقبلة على مشكلة داخلية. وسوف يكون الجهد منصبّاً على تقليم أظافر ما يمكن وصفه بـ«التيار الجهادي» في الحركة، أي التيار الذي لا يريد لأي أولوية أن تتقدم على أولوية المقاومة. وللعلم، فإن الشهيد أحمد الجعبري كان أحد أركان هذا التيار. ثم سوف تجد حماس نفسها في مواجهة مع قوى مثل حركة الجهاد الإسلامي وفصائل مقاومة أقل تأثيراً، من فتح ـــ كتائب الأقصى إلى الجبهة الشعبية وفصائل أخرى. وفي حالة المواجهة هذه، سوف تجد حماس نفسها ملزمة باللجوء الى الخيارات القاسية من أجل تبرير سيطرتها ومسؤوليتها إزاء المحور الإخواني وإزاء متطلبات الاستقرار العام. وهذا يعني مع الأسف الاقتراب من حافة حرب أهلية فلسطينية جديدة.
رابعاً: إن قبول حماس الانضواء الكامل في هذا المحور، يعني ارتفاعاً سريعاً لسقف موقفها من الأزمة السورية. وبدل الاكتفاء بنقد سياسات النظام والدعوة الى الحوار، سوف نسمع الكلام الأعلى ضد النظام في سوريا، والله أعلم ما إذا كنا سوف نسمع الكلام المهين بحق إيران وحزب الله الوارد على لسان مناصرين لحماس من قيادات رسمية أو من مستويات أرفع. والخطير، الذي يجب العمل على منعه، هو أن الولايات المتحدة تريد بالضبط هذه الخدمة من هذا المحور، وهي سوف تضغط على مصر وتركيا وعلى دول الخليج لتدفع حماس باتجاه تولّي مهمة «نزع شرعية المقاومة لأجل تحرير فلسطين» عن أي جهة أخرى غير فلسطينية. وهذا يقصد به محور إيران ـــ سوريا ـــ حزب الله، وبالتالي دفع هذا المحور خطوات إلى الوراء، والانزواء في مربع الدفاع عن شعار بات مرفوضاً من أهل الأرض نفسها، وبالتالي إعادة حشر هذا المحور في هوية طائفية ومذهبية ضيقة عنوانها «الجبهة الشيعية».
المشكلة ليست متصلة فقط بوجود من دعم مثل هذه الخيارات. المشكلة سوف تكبر إذا ما تم تجاهل التيار الكبير داخل مصر وفلسطين، الذي يحتاج الى كل دعم الآن لأجل التأكيد أن الهوية الوطنية المستقلة توجب عدم التبعية للمحور الذي ترعاه أميركا، وهذا وحده الطريق لإبقاء مسألة تحرير فلسطين أولوية حقيقية.
بالمناسبة، شكراً سامي شهاب.