غزّة | معالم الحرب والعدوان الإسرائيلي تبدو واضحة في شوارع مدينة غزة، التي تبدو خالية تماماً من المارة والسيارات إلا ما ندر منها. واذا حصل ومرت السيارات، فانّها تسير بسرعة فائقة، وكأنّ سائقها يهرب من موت محتّم. هذا طبعاً بالإضافة الى سيارات الإسعاف التي لا تخلو منها الشوارع وتتنقل بسرعة في مدن القطاع لنقل الجرحى والشهداء. غير أن تلك المظاهر التي نراها في شوارع مدينة غزة، تختفي آثارها كلما اتجهنا جنوباً نحو المناطق الوسطى والجنوبية من القطاع، فأسواقها منتعشة بعض الشيء، وتعج بالمواطنين الذين يذهبون للتبضع، ومحالها التجارية فاتحة أبوابها، رغم وجود بعض الاستهدافات من قبل الطائرات لمنازل كوادر في فصائل المقاومة الفلسطينية. لكن سكان تلك المناطق لا يحبون أن يعيشوا أجواء الحرب، وكأنّ المخيمات الفلسطينية تأبى الاستسلام لأوامر الاحتلال، فهم أكثر عناداً من غيرهم، ويحاولون أن يثبتوا للأعداء أنهم أقوى منهم، وأنهم سيعيشون حياتهم بشكل طبيعي رغم أنف غاراتهم.
بائع الخضرة محمد الحواجري، من مخيم النصيرات للاجئين وسط قطاع غزة، ينادي بأعلى صوته على بضاعته، التي يحصل عليها بصعوبة بالغة، وخصوصاً أنّهم منقطعون عن مدينة غزّة، ومناطق الشمال، في محاولة منه لجلب أكبر عدد من المشترين. يأتي كعادته ليرتب «بسطته»، التي يضع عليها الخضر والفواكه، من أجل أن يحصّل قوت أبنائه آخر النهار. يقول لـ«الأخبار» «مهما حاول العدو أن يثنينا عن الحياة فهو مخطئ، دوماً يدعي بأننا أناس نحب الموت أكثر من الحياة»، وراح يشير إلى طائرة استطلاع كانت تحلّق في السماء فوقه. ويتابع «طائراتهم فوقنا تصورنا وتشاهد كل ما نفعله، فلتمت إسرائيل بغيظها. في الوقت الذي يختبئ فيه مستوطنوها في ملاجئ أغلبها ممرات المجاري، نحن نخرج للشوارع ونعيش حياتنا بشكل طبيعي، وإن كان هنالك اغتيالات في منطقتنا، لكننا لا نيأس ولا نستسلم، فصورتنا هكذا تدمر معنوياتهم وتحبطهم أكثر».
وتقف امرأة تدعى أم حمزة على بسطة الحواجري، تحاول أن تشتري البندورة، لكن لا يعجبها السعر لأنه غالٍ بعض الشيء، فتباشر بمفاصلة صاحبها على السعر علّّها تأخذ كمية أكبر بسعر أقل. تقول «نحن نعيش الحرب وتبعاتها بداخلنا دوماً ولن تفارقنا، طالما ما زلنا تحت الاحتلال الإسرائيلي، يستبيح سماءنا ويقتل أطفالنا، ولكن ذلك لا ينال من عزيمتنا، بالعكس نزداد قوة»، لكنها سرعان ما عادت لتشتكي سوء الحال الذي وصل إليه المواطنون جراء العدوان، فالأسعار بدت أغلى بضعفين، وهو ما يزيد من سوء الوضع الاقتصادي.
ولا يختلف كثيراً رأي إبراهيم العصار، وهو صاحب محل تجاري يبيع فيه الملابس الجاهزة للسيدات عن الحواجري، ويقول «إذا جلست في البيت فماذا سيحل بأبنائي، وأنا أسترزق من هذا المحل يومياً، ولا يوجد دخل آخر لي؟»، مشيراً إلى أنه «لا يخاف أن يموت أو أن يصاب بأذى، لأن ذلك مقدر ومكتوب على كل إنسان، فمن كُتب له الموت سيلقاه، وإن كان في المنزل ووسطه عائلته». ويضيف «المجازر التي ارتكبتها ولا تزال ترتكبها إسرائيل هي بحق عائلات كانت آمنة في منازلها، لكننا نذهب إلى أعمالنا ولا يصيبنا شيء، كل ذلك مقدر ولا إرادة لنا فيها، لذلك علينا أن نهزم إسرائيل ونُري العالم أننا أصحاب حياة ولسنا بائعين للموت».
ومن وقت لآخر يجتمع العصار مع مجموعة من جيرانه أصحاب المحال المجاورة، أمام أحدها، يتابعون الأخبار، إما عبر شاشات التلفاز في حال كانت الكهرباء متوافرة، أو عبر الإذاعات المحلية إن قُطع التيار الكهربائي. ويؤكد العصار أنّ المناظر التي يشاهدونها من جثث للأطفال الأبرياء، لا تثير إلا اشمئزازهم من الدول العربية، التي لا تعرف سوى الحديث عبر الإعلام، دون أن تقدم شيئاً حقيقياً لهذا الشعب المنكوب.
ولا يختلف الوضع كثيراً في مدينة دير البلح، وإن كانت أقل حيوية من مخيم النصيرات. وفيها ينعقد السوق المركزي «سوق الثلاثاء»، حيث يتوافد المواطنون عليه لشراء حاجاتهم، وكأنه لا عدوان على القطاع؛ وفود كاملة من الرجال حاملين أكياس خضار ومستلزمات المنازل الضرورية ويعودون بها إلى بيوتهم، قبل أن يبدأوا متابعة آخر المستجدات على الساحة الغزية.
تبدو الأجواء طبيعية بالنهار، غير أنها تختلف مع حلول ساعات المساء، خصوصاً أن التركيز في عمليات القصف الإسرائيلية يكون خلاله. ويقول المواطن أبو محمد الديراوي (56 عاما) إن «القصف يكون في الليل، نحن علمنا مواعيدهم، نلتزم بالبقاء قريبين من المنازل كي لا يقلق ذوونا علينا، ولكننا نبقى في الشوارع والأزقة كي لا نترك انطباعاً لدى الطيارين بأننا جبناء ونخاف الموت».
أما أبو محمد الديراوي، فيعتبر أنّ «المقاومة تفعل ما عليها من قوة سلاحية، ويبقى دورنا نحن أن نفعل ما يفيدها، ألا نقترب من أماكن الاستهداف، ولكن في ذات الوقت لا نترك شوارعنا خاوية من أهلها فنترك الخيار مفتوحاً أمام الاستهدافات».
ويعيش أهالي المنطقة الوسطى ليالي قصف إسرائيلية متواصلة، لكن ما إن يبزغ الفجر حتى تعود الحياة لطبيعتها، ويذهب كلٌّ الى عمله، ويتنقل سكانها بأريحية أكبر بكثير من أهل مدينة غزة، الذين يستهدفون بشكل عشوائي. ويقول محمود الخضري وهو من سكان غزة «نحن لا نستطيع السير لاعتبارات خاصة بالمدينة، غزة هي المدينة الكبرى، تضم كافة المراكز والمواقع الحكومية، فإن أردنا السير وتم استهدافها نكون رمينا بأنفسنا للتهلكة، وإن لم تستهدف نكون وضعنا أنفسنا في مواقع شك، فمن المعروف أن من يقترب من تلك المراكز هو متعاون مع مخابرات الاحتلال وهو هنالك فقط من أجل رصدها وإعطائهم معلومات عنها».
ويوضح الخضري أنّ «أهالي المناطق الوسطى من قطاع غزة، يأتون جميعهم الى مدينة غزة حين يريدون أن يقضوا احتياجاتهم الثانوية، حتى وإن كانوا يريدون أن يغيّروا من روتين حياتهم اليومي، يحضرون إلى هنا للترفيه عن أنفسهم؛ فمدينة غزة تعج بالحركة، وتوافد الغزيين اليها من باقي المحافظات يزيد من حيويتها، أما في هذه الأيام فهم ملازمون منازلهم، لذلك نجدها أكثر هدوءاً بدون مارة»، مشيراً إلى أنه خلال الأيام القليلة المقبلة ستعود الأمور إلى طبيعتها.