تونس | دفعت قضية موت مسجونَين سلفيين في سجن المرناقية التونسي، جراء إضرابهما عن الطعام، عشرات السلفيين إلى التجمع أمام وزارة العدل في القصبة، رافعين شعارات تطالب بإطلاق المعتقلين الذين تم إيقافهم إثر أحداث السفارة الأميركية في منطقة البحيرة يوم ١٤ أيلول الماضي وفي أحداث عنف أخرى، منها معرض الفنون التشكيلية في قصر العبدلية في ضاحية المرسى يوم ١٠ حزيران الماضي. ويُقدّر عدد الموقوفين من التيار السلفي بأكثر من مئة شخص، بينهم بعض القادة مثل أبو أيوب ومؤسس تيار «أنصار الشريعة»حسن بريك، وغيرهم. كما رفعوا شعارات تندد بالإدارة الأميركية التي يحمّلونها مسؤولية التوقيفات.
تواتر مثل هذه الأحداث وفي أكثر من جهة في البلاد تؤكد أن المواجهة بين الدولة، لا الحكومة، والتيار السلفي، ستكون مفتوحة وطويلة وقد لا تخلو من العنف. فكل المؤشرات تؤكد أن السلفيين أصبحوا مُعطى صعباً في الشارع التونسي ويطرحون بديلاً من النموذج الاجتماعي الذي عُرفت به تونس، وهو ما سيجعلهم في مواجهة عدائية مع المجتمع من خلال العادات الغريبة عن التونسيين التي يدعون الى تكريسها في الشارع وفي اللباس والأكل وحتى التحية. لكن، كيف تنامى حضور هذا التيار في الشارع التونسي، الأكثر تحرراً في البلاد العربية، وما هي مكوناته وطبيعة علاقته بالحكومة قبل ١٤ كانون الثاني وبعدها؟ وما الذي يعيبه التونسيون على أنصار التيار السلفي؟
الولادة
في مطلع التسعينيات، وبعد أشهر قليلة من الود بين نظام الجنرال الصاعد حديثاً، آنذاك للحكم، زين العابدين بن علي، وحركة النهضة (الاتجاه الإسلامي سابقاً)، دخلت وزارة الداخلية في مواجهة مفتوحة مع حركة النهضة بعد مشاركتها في انتخابات 1989، والتي فاز فيها بن علي وحزبه الجديد «التجمع الدستوري الديموقراطي» بغالبية مطلقة. وقد اعتمد النظام السابق سياسة اجتثاث مع الإسلاميين ترتّب عليها الزج بأكثر من عشرة آلاف في السجون ومئات الفارين الذين لاذوا بالمنافي، مع حرمان المئات من العمل وإخضاع البقية لرقابة إدارية وأمنية صارمة. في هذا المناخ من محاصرة الإسلام السياسي، وُلد التيار السلفي في الأحياء الفقيرة المحيطة بالعاصمة ذات الكثافة السكانية العالية وفي بعض مدن الشمال، مستفيداً من تشجيع ضمني للسلطة لهذا التوجه الذي يدعو الى طاعة أولي الأمر وعدم التصادم مع السلطة. وقد وجدت السلطة في هؤلاء السلفيّين الموالين لها خير حجة للتأكيد أنها تحترم الشعائر الدينية، بل تشجّع عليها، وأن قضية الإسلاميين ليست سياسية بل هي قضية حق عام، بعدما تبين إعدادهم لمخطط لقلب النظام، حسبما روجت لذلك وسائل الإعلام والوقائع الجنائية التي روجتها السلطة والتي نفاها الإسلاميون جملة وتفصيلاً. في هذا المناخ، ترعرع السلفيون باعتبارهم تيار «دعوة» وليس تياراً سياسياً، لكن أحداث مدينة سليمان، التي رفع فيها السلفيون السلاح ضد الدولة، دفعت السلطة الى تضييق الخناق على السلفيين واعتمدت قانون الإرهاب الذي أدينت به مجموعة سليمان وسلّط عليها العقاب، الى أن غادر بن علي البلاد وفتحت ثورة ١٤ كانون الثاني صفحة جديدة في تاريخ تونس، أصبح بمقتضاها السلفيون أحراراً والإسلاميون حكاماً لتونس ما بعد الثورة.
ما بعد الثورة
منذ ١٤ كانون الثاني ٢٠١١، تعددت أحداث العنف ضد مواطنين أو مبدعين أو فضاءات ثقافية وسياحية. وكانت البداية من قاعة سينما «أفريكا» بتهمة بث شريط يسيء للذات الإلهية، ثم قناة «نسمة» بالتهمة نفسها. ورغم الاعتداءات الكثيرة، كان البعض يشكك في أن يكون السلفيون وراء هذه الأحداث، بل اعتبر عدد من زعماء الأحزاب السياسية قبل الانتخابات، مثل زعيم اليسار حمة الهمامي، وزعيم حزب المؤتمر من أجل الجمهورية منصف المرزوقي، وزعيم حركة النهضة راشد الغنوشي، وغيرهم، أن أحداث العنف وراءها الأمن السياسي وبقايا النظام السابق لبث مناخ من الخوف والشك في الثورة.
بعد صعود الترويكا إلى الحكم، ازداد نفوذ السلفيّين في الشارع وكانت الصدمة عندما تم اكتشاف خلية تعدّ لإقامة إمارة إسلامية في منطقة بئر علي بن خليفة (وسط). وكان اكتشاف هذه الخلية التي سقط منها قتيلان عن طريق الصدفة، وقد عبّر آنذاك وزير الداخلية علي العريض عن أن المواجهة مع السلفيين آتية لا محالة.
هذه الأحداث كشفت للنخب السياسية حقيقة هذا التيار الذي انتشر بصمت، مستفيداً من تدفق المال الخليجي في إطار جمعيات خيرية في ظاهرها، وهابية في مضامينها. وتكررت أحداث الاعتداء على المواطنين مثل الاعتداء على المسرحيّين في اليوم العالمي للمسرح وقضية النقاب في كلية الآداب في منوبة، ومنع العروض الفنية في المهرجانات، وحادثة الاعتداء على سمير القنطار في بنزرت، الى أن وصل الأمر الى حد تأسيس جهاز «شرطة سلفية» لتأديب من يعتبرونهم «خارجين عن الإسلام». بعدها تم الاعتداء على السفارة الأميركية التي كانت جهاز الإنذار الأخير للسلطة من أجل أن تضع حداً للانفلات السلفي. وفي الوقت الذي كانت فيه المعارضة تُحمّل وزير الداخلية مسؤولية تجاوزات السلفيّين، كان قادة حركة النهضة يدافعون عنهم باعتبارهم جناحاً لا بد من توظيفه في الانتخابات واستعماله في ردع المعارضين. وقد أكد الغنوشي أكثر من مرة أن «السلفيين يذكّرونه بشبابه... وأن لهم ثقافة يبشّرون بها». وقال عنهم رئيس الحكومة حمادي الجبالي «إنهم لم يأتوا من المريخ». لكن بعد أحداث السفارة، وجدت «النهضة» نفسها في مأزق بين الالتزام بحماية البعثات الدبلوماسية والتتبع القضائي للمعتدين على السفارة، فاضطرت الداخلية إلى إيقاف العشرات ، ما أثار حفيظة التيار السلفي الذي أعلن شيوخه أنهم ليسوا دعاة عنف بل دعاة دين، واتهموا النهضة بالدخول في صفقة سياسية على حسابهم، وهددوها برد قاس. وقد أفاضت أحداث دوار هيشر الكأس، وأكدت مجدداً أن المواجهة آتية بين النهضة والسلفيين وأن البلاد مهددة بعنف حقيقي، وخاصة بعد سيطرة السلفيين على أكثر من مئتي مسجد يبثون من خلالها خطاباً تكفيرياً للحكومة وللمجتمع.



تحوّلات تونسيّة

الظاهرة السلفية في تونس بتياراتها المتعددة ليست ظاهرة سياسية فقط، بل هي تعبير جلي عن التحولات التي عرفتها تونس في بنيتها الثقافية والاجتماعية، وهي تهديد جدي للنموذج الاجتماعي الذي عُرفت به تونس، وليست مجرد تيار معارض لهذه الحكومة أو للحكومة المقبلة. والحل لا يمكن أن يكون حلاً أمنياً مثلما فعل بن علي مع الإسلاميين في التسعينيات، بل لا بد من تأسيس مشروع للتنمية الثقافية والاجتماعية حتى تتجنب تونس العنف الذي أصبح احتمالاً قائماً بجدية. بعد وفاة الشابين من التيار السلفي: البشير القلي ومحمد بختي، يخاف التونسيون اليوم من ردة فعل شباب التيار السلفي، الذين قال أحد شيوخهم خميس الماجري (الصورة) إن صبرهم بدأ ينفد. كذلك يعزز تصريح وزير الداخلية القيادي في حركة النهضة علي العريض، على أثر أحداث دوار هيشر، بأن السلاح تسرب الى تونس، مخاوف التونسيين من انفجار العنف وخاصة بعد مداهمة قوات الأمن ورشة لصنع بنادق الصيد في جهة جندوبة (شمال غرب). كما تم العثور قبل أيام على بنادق صيد في حافلة لنقل المسافرين متجهة من تطاوين (جنوب شرق). وكان زعيم السلفية الجهادية أبو عياض الملاحق من قوات الأمن، قد أعلن أنه تدخل لمنع تفجيرات في تونس.