قيام ثورة في شمال اليمن في أيلول 1962، كان حدثاً غير متوقع، على الأقل بالنسبة للاستخبارات البريطانية والأميركية. العلم البريطاني وقتها كان مرفوعاً في جنوب اليمن، حيث مدينة «عدن» المستعمرة، لذا شعرت الإمبراطورية البريطانية بأن مصر قادمة إليها بعدما أعلن جمال عبد الناصر دعمه للثورة في شمال اليمن. لكن الثورة تحولت إلى حرب في اليمن واستمرت من العام 1962حتى العام 1970، وكانت بين معسكرين يمنيين: الملكيون بدعم سعودي والجمهوريون بدعم من مصر عبد الناصر.
بريطانيا حولت الثورة في اليمن إلى حرب، باقتراح سعودي ودعم إسرائيلي، وحذر أميركي. هذه الحرب كانت هي بداية العلاقة بين إسرائيل والسعودية. فالسعودية وبريطانيا وإسرائيل وأميركا، جمعها الخوف من تغيير الوضع في اليمن، التي كانت تستعد لتكوِّن حلفاً مع مصر في باب المندب.
السعودية كانت تخاف قيام جمهورية في اليمن، وتخشى من انتقال الثورة إليها. وبريطانيا تخاف من وصول عبد الناصر. لذلك وطدت السعودية اتصالاتها بعدو مصر الأول إسرائيل، عبر عدد من المسؤولين الأميركيين والبريطانيين. وبرز هنا دور المحافظين البريطانيين، مثل جوليان ايميري الشديد العداء لمصر.
اليمن مصيدة عبد الناصر
تفاصيل كثيره يذكرها الوزير البريطاني دنكان سانديز، في كتابه «الصراع على اليمن». فهذا الرجل هو من اقنع الملك فيصل بأن نجاح عبد الناصر في اليمن يمثل خطراً على الاحتياطات النفطية وينذر بالشر، ولذا على جميع الأطراف مقاومته. وهو من اقترح على فيصل جعل اليمن مصيدة لعبد الناصر كي تستنزف مصر في حرب أهلية، ويمكن بعد ذلك هزيمتها في حرب مع اسرائيل، وهو ما حدث بالفعل. لقد شكّل لهذا الغرض إطار سياسي خاص، لمواجهة الناصرية في اليمن، من خلال إعطاء دور
لإسرائيل.
وقتها لم يكن ممكناً للسعودية التواجد كدولة في المنطقة دون دعم الاستخبارات البريطانية، التي كانت سبباً لتواجد دولة لليهود في فلسطين. فبريطانيا التي أوجدت إسرائيل في المنطقة، هي التي رعت وجود المملكة السعودية. وظلت المملكة مهتمة بوجود مستشارين بريطانيين في بلاطها، لحد اليوم، وكان جلهم يهوداً بهويات دبلوماسية بريطانية وأميركية، يعملون في شركات للنفط.
التواصل السعودي ــ الإسرائيلي، يبدو أنه أثمر تعاوناً عسكرياً. فالمملكة الوليدة والثرية، لم تكن لديها بعد القوة العسكرية التي تمكنها من دحر القوات المصرية في اليمن. ولهذا قد تكون أول حرب إسرائيلية مصرية مباشرة، بعد العدوان الثلاثي (1956) الذي ساهمت فيه إسرائيل إلى جانب فرنسا وبريطانيا، قد شنت في اليمن وبشكل غير رسمي، قبل الحرب الرسمية في العام 1967، التي هزمت فيها مصر.
فالسعودية كانت تمول مرتزقة يتخذون من أرضها مكاناً للتجمع، ثم ينتقلون الى داخل اليمن، مزودين بالمال والسلاح، لإجهاض الثورة في اليمن، أو أي تواجد مصري. ومن أجل ذلك، استمرت الحرب بين الملكيين والجمهوريين، ولم تنته الا بعد موت جمال عبد الناصر.
فبعد العام 1970، بسطت السعودية قبضتها على اليمن، وأغرقت السياسيين اليمنيين بالأموال. وكانت تغتال أي سياسي يمني يشكل خطراً على التواجد السعودي في اليمن. وبقيت علاقتها بالاستخبارات البريطانية ومن ورائها إسرائيل، ثم الولايات المتحدة، هي خط الأمان لتواجدها في المنطقة. فهي لم تكن تثق بأقرب جيرانها اليمن والبحرين. وكانت الحدود العربية ــ السعودية، تشكل خطراً على المملكة الحديثة.
وقتها شهدت سماء اليمن أربع عشرة طلعة جوية إسرائيلية، أسقط خلالها الطيران الحربي الإسرائيلي، الأسلحة والعتاد العسكري والأغذية والمواد الطبية لمساعدة القوات الملكية في حربها ضد الجيش المصري وقوات الثوار اليمنيين.
ونقلت صحيفة «سلاح الجو الإسرائيلي»، في عددها الصادر في أيار 2008، عن طيارين إسرائيليين مشاركتهم في مساعدة القوات الموالية لنظام الإمام البدر، آخر ملك يمني قبل اعلان النظام الجمهوري. ولقد تصدت الطائرات الاسرائيلية للجيش المصري الذي أرسله جمال عبد الناصر إلى اليمن لدعم الثورة في ستينيات القرن الماضي.
ووفقاً للصحيفة، فإن الطيران الإسرائيلي نفذ عدداً من الطلعات الجوية فوق اليمن، في عملية أعطيت اسم «صلصة».
ما كشفته الصحيفة الإسرائيلية باطمئنان بعد أكثر من ثمانية وثلاثين عاماً، يوضح الحالة التي كانت تعيشها السعودية في بداية عهدها. لكن لا أحد يستطيع الجزم أن السعودية غادرت تلك الحالة، أي حالة الخوف من الجيران ومن حدودها الجنوبية والشرقية. الوثائق السرية، التي لم تعد كذلك الآن، تظهر صوراً لبعض الطيارين الإسرائيليين، المشاركين في عملية «الصلصة». وتفخر بصور لبعض الملكيين الموالين للسعودية، ممن سمتهم «موالين للإمام بدر» وبحوزتهم السلاح الإسرائيلي.
بعد أكثر من ثمانين عاماً، لا يمكن الجزم بأن كواليس القصر الملكي السعودي، لم يعد يسمع فيها أي اتصال مع تل أبيب. فهذه الكواليس ظل فيها بعض الأشخاص ممن دعموا التعاون السعودي ــ الاسرائيلي، مثل تاجر السلاح، الملياردير السعودي عدنان خاشقجي، الذي كان مقرّباً من الملك فهد في الثمانينيات. فقد كان في الستينيات على علاقة مع الإسرائيليين، وكان هو الذي وفر ميزانية لشراء أسلحة واستقدام مرتزقة من جنسيات إسرائيلية، بريطانية، فرنسية، بلجيكية وجنوب أفريقية لإرسالهم إلى اليمن لدعم وتسليح القبائل اليمنية الموالية للسعودية والمناهضة لعبد الناصر.
ولكي يتم التواصل بشكل مستمر، افتتح مكتب ارتباط سعودي ــ إسرائيلي في بيروت تحت غطاء تجاري، وكان المحافظ البريطاني جوليان ايميري، هو الوسيط بين خاشقجي والإسرائيليين. خاشقجي كان خريج كلية فكتوريا في الاسكندرية في أوائل الخمسينيات، وهي الكلية التي عرفت بـ«خلية فكتوريا». فقد كانت مركزاً للتجنيد، وتخريج عملاء بريطانيا.
وقتها كان هناك ثلاثة طلاب سعوديين يدرسون، في صف واحد، كان لهم بعد ذلك دور كبير في تثبيت العلاقات السعودية ــ الإسرائيلية، بعد تخرجهم، أحدهم كان خاشقجي، الذي أصبحت له علاقات مميزة بالاستخبارات الأميركية.
لكن كان هناك كمال أدهم، صهر الملك فيصل، الذي استطاع التأثير عليه، ليغير موقفه من عبد الناصر. فبعدما كان فيصل معجباً بعد الناصر، أصبح يراه خطراً على تواجد المملكة. وعمد إلى محاربته في اليمن.
إنهاء الوحدة المصرية ــ السورية في العام 1961، مثّل بداية التآمر على عبد الناصر، لعزله عن محيطه العربي، الذي كان عبد الناصر يسعى وحدته، ثم جاء افشال الدعم المصري لليمن. وقتها كانت الصحافة اللبنانية تهاجم عبد الناصر بشكل غير مسبوق، بعدما سيطر عليها المال السعودي، وفي أجواء مهاجمة فكر الوحدة العربية، تكونت أول مجموعة عمل إسرائيلية ــ سعودية، في بيروت.
يمكن الإشارة إلى أن العلاقات السعودية ــ الإيرانية وقتها كانت ممتازة. فقد كانت إيران الشاه، عضواً في المجموعة ضد عبد الناصر. ولم يبدأ التنافر السعودي ــ الايراني، الا بعد قيام الثورة الايرانية، في 1979.
هذه المجموعة كانت تخطط لعزل عبد الناصر عن محيطه العربي، فكان إفشال الوحدة بين مصر وسوريا، يعني دفعة قوية لها. لكن قيام الثورة اليمنية في 62، قلب المعادلة، شعرت العائلة السعودية بالخطر، مع تأييد مصر لثورة اليمن، فهذا كان يعني خلق صراع في المملكة وتحفيز المعارضة السعودية.
هنا ظهر دور مجموعة فكتوريا، ومنها خاشقجي، لإنهاء الارتباك السياسي السعودي. وبرز دور شركة ارامكو السعودية للنفط، والتي كانت شركة أميركية، وبقيت محتفظة بالاسم الأميركي حتى بعد تأميمها في الثمانينيات. أرامكو كانت هي الاستخبارات الأميركية المشرفة على السياسة السعودية ضد مصر في اليمن. وقتها كان على السعودية احترام اليهود الاميركيين العاملين في المملكة في شركة أرامكو، بحسب تنبيه من الرئيس الأميركي، جون كنيدي. وهؤلاء اليهود كانوا هم نواة العلاقات السعودية ــ الإسرائيلية، فجزء من نص رسالة التنبيه للملك فيصل لاحترام اليهود الأميركيين في السعودية كان يقول «يجب على السعودية احترام العهد الذي قطعه الملك سعود، فإسرائيل وجدت لتبقى».
وقتها لم يكن مطلوباً من فيصل التعامل مباشرة، مع إسرائيل. فبقاء الخط البريطاني ــ الأميركي كان هو الهدف، للضغط على مملكة النفط، الى جانب أن التعامل المباشر مع إسرائيل كان سيعني فشل الخطة وعمل المجموعة. وكان سيوجد الذريعة لعبد الناصر، للتواجد بشكل أقوى في اليمن مع زيادة الدعم الشعبي. وقد يعني تدخلاً روسياً مباشراً أيضاً.
وقتها كانت بريطانيا تحتل جنوب اليمن، فتواجد عبد الناصر في شمال اليمن لم يكن ليهدد السعودية فقط، بل التواجد البريطاني في الجنوب اليمني، حيث آخر معقل للامبراطورية البريطانية في الوطن العربي، والتي يريد عبد الناصر ازالتها.
ولذلك كانت بريطانيا مستعدة لفعل أي شيء لمواجهة عبد الناصر في اليمن، لكن إسرائيل كانت تتحرك لتحصل على تواصل مباشر مع السعوديين دون وساطة بريطانية أو أميركية. هنا ظهر دور المحافظ البريطاني ايميري، بالتعاون مع الوزير دنكان سانديز.
«السعودية هي أهم احتياطي للنفط في العالم، وللحفاظ على هذه الثروة يجب إغراق اليمن في حروب أهلية». كانت هذه هي الخطة التي وضعت في لندن، مع زيارة فيصل. في الحقيقة كان فيصل هو صاحب الخطة، فبريطانيا كانت مستعدة للتدخل المباشر في اليمن لقتال عبد الناصر، وكذلك اسرائيل. لكن فيصل كان يعرف طبيعة المنطقة، وتأثير هذا التدخل على الصراع العربي ــ الإسرائيلي. وقتها لم يكن النصر مضموناً، ولم تكن النتيجة ستكون بالدرجة التي تريدها مجموعة فكتوريا، لذلك وافق الجميع على فكرة الحرب اليمنية ــ اليمنية، التي بقيت مشتعلة ثماني سنوات ولم تنته إلا بموت عبد الناصر، وتم بعدها عقد صلح بين القوى المتصارعة برعاية سعودية، فبقيت الجمهورية، وتم حكم اليمن بسياسيين يمنيين جمهوريين موالين للسعودية.
«كمال ادهم» صهر الملك فيصل وأحد أفراد مجموعة فكتوريا، كان له دور في رشوة القبائل اليمنية حيث كانت هناك ميزانية بريطانية مفتوحة. وفي هذا الوقت، كان هناك مكتب رسمي في ستلون ستريت في لندن، اسمه «لجنة الدفاع عن اليمن الملكية». وكان بإشراف الحكومة البريطانية. المكتب حرك الكثير من المرتزقة في الحرب اليمنية الأهلية، وتحرك وقتها عدد من الضباط البريطانيين، منهم جون كوبر الى منطقة الجوف شمال اليمن على الحدود السعودية، ليشكل أول وحدة عمل سعودية ــ إسرائيلية مشتركة لتوجيه جنود المظلات الإسرائيلية من أصل يمني. وبعدها تم فتح فرع للمكتب في مدينة عدن المحتلة من قبل البريطانيين للغرض نفسه.



احتواء الوضع

خلال سنوات الحرب الأهلية اليمنية، استنزفت طاقة مصر في اليمن، لكن بعدها كانت بريطانيا قد حملت عصاها ورحلت، تماماً كما قال عبد الناصر في خطبته الشهيرة في ميدان مدينة تعز اليمنية. زيارة عبد الناصر لليمن، مع اندلاع الحرب بين المعسكرين الملكي والجمهوري، كانت رسالة واضحة للسعوديين والبريطانيين، أنه لن يترك اليمن. هو لم يستطع الوصول الى صنعاء، التي كانت محاصرة ومشتعلة بالحرب، لكنه وصل الى تعز، المحاذية للحدود بين الشمال والجنوب والقريبة من عدن. وهنا تأكدت بريطانيا أن الخطر أصبح أقرب.
الولايات المتحدة كانت سياستها مختلفة، كنيدي اعترف بالجمهورية الجديدة في اليمن، وكان مع إيجاد تسوية واحتواء الوضع في اليمن. لكن بريطانيا وشركات النفط وإسرائيل كان لها وجهة نظر أخرى. اختلاف وجهات النظر في التعاطي مع الوضع الحساس في اليمن لم يرجح لجهة أميركا، لكن بعد فشل المواجهة العسكرية، تم الاخذ بوجهة النظر الأميركية وتم احتواء الوضع في اليمن، من قبل السعودية، بعد التأكد من نهاية خطر عبد الناصر بموته.