بغض النظر عمّا إذا كان لجوء إسرائيل إلى سياسة الاغتيالات ضد القيادات الميدانية الفلسطينية متوقعاً في هذه المرحلة أو لا، إلا أن المؤكد أن اغتيال القائد العسكري لكتائب الشهيد عز الدين القسام، أحمد الجعبري، لم يكن، في أي يوم من الأيام، مفاجئاً. الشهيد الغزاوي، رمز المقاومة الفلسطينية في فلسطين المحتلة، كان على المهداف الإسرائيلي طوال السنوات الماضية.
إذاً، الشهيد الجعبري كان هدفاً إسرائيلياً بامتياز، ويتقدم أهداف إسرائيل. حاولت تل أبيب استهدافه أكثر من مرة في الماضي، إلا أن الإخفاق والفشل كانا على الدوام يصاحبان محاولاتها. قدرة الشهيد واحتياطه الأمني وحراكه وأداؤه الميداني مكّنته من التملص من العيون الإسرائيلية التي تسيطر استخبارياً على طول الساحة الغزاوية. لكن هذه المرة نجحت استخبارات إسرائيل، أخيراً، وتمكنت من استهدافه.
أيضاً، كان قرار اغتيال الجعبري أكثر إلحاحاً ومدفوعاً في هذه المرحلة بحقيقة أن صورة تل أبيب، المتوثبة والرادعة، قد اهتزت بالفعل أمام الجانب الفلسطيني، بكل شرائحه وفصائله وطبقاته، التي من شأنها أيضاً أن تمتد لإلحاق الضرر بصورة ردعها وتوثبها في ساحات أخرى تكثر في المرحلة الأخيرة من توجيه التهديدات لها. ويمكن القول إن اهتزاز الردع الإسرائيلي امتد أيضاً الى الجانب الاسرائيلي نفسه، وإلى جمهوره وخبرائه ومحلليه، وهو ما كان واضحاً في الايام القليلة الماضية.
وبالتأكيد، فقد كانت الحسابات السياسية الداخلية حاضرة بقوة لدى رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو، الذي أدرك أن اختتام جولة التصعيد في الأيام الماضية، وما آلت إليه من نتائج وتصعيد وردود وردود مضادة، سوف يلحقان أضراراً فعلية بصورته كزعيم حازم وقادر على اتخاذ «القرارات الشجاعة»، التي من شأنها أن توفر لإسرائيل وللإسرائيليين هدوءاً وأمناً.
والصورة التي بدا فيها نتنياهو في الأيام الماضية هي أنه زعيم إسرائيلي يتحدث عن الأمن في كل اتجاه، لكن بلا أفعال. وكان من شأن هذه الصورة أن تلحق به خسائر فادحة في الانتخابات المقبلة إن بقيت على ما هي عليه، علماً بأن الأمن والاستقرار والهدوء ودرء الأخطار على أنواعها، أرادها نتنياهو محوراً للتجاذب والتنافس في هذه الانتخابات، بعيداً عن القضايا الاجتماعية والاقتصادية، وبالتالي إجراء الانتخابات وفق إيقاع اختيار الزعيم القادر على قيادة إسرائيل في مواجهة التحديات الامنية، وهو الذي تباهى به قبل عدة أسابيع بأن سياسته الحازمة و«بث» الشعور بالقوة حققا لإسرائيل أمناً مستقراً على طول حدودها مع محيطها.
وتواصل الضربات الصاروخية الفلسطينية التي تلقّتها المستوطنات رداً على الاعتداءات الاسرائيلية في قطاع غزة، والتي كانت قاسية جداً بموازين تل أبيب، وضع الحكومة الإسرائيلية أمام خيار المبادرة والرد، بالمستوى الذي يمكّنها من استعادة صورة الدولة المتوثبة والرادعة، وهو ما ينحصر تحقيقه في أحد خيارين: إما عملية عسكرية واسعة مشابهة لعملية الرصاص المصهور، في نهاية عام 2008، والتي دونها الكثير من العقبات السياسية الداخلية والإقليمية والدولية، فضلاً عن تطور القدرات العسكرية والقتالية الفلسطينية، أو اللجوء الى سياسة الاغتيالات، رغم أنها تنطوي على إمكان التدحرج نحو مواجهة واسعة، في حال قوبلت بردود تتجاوز الخطوط الحمراء الإسرائيلية.
وهكذا انتقلت الأجهزة العملانية الإسرائيلية إلى مرحلة توفير الأرضية التي تمكّنها من تنفيذ عملية اغتيال القائد العسكري لحماس، الذي ما كان ليتم لولا المعلومات الاستخبارية الدقيقة التي ترصد تحركه، فضلاً عن تحرك تضليلي على مستوى القيادة السياسية العليا التي حاولت الإيحاء، في الساعات الأولى لصباح أمس، بأن التوجهات الإسرائيلية باتت في مكان آخر، بعيداً عن قطاع غزة، وتحديداً باتجاه الجبهة الشمالية مع سوريا، حيث أعلن عن وصول رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو ووزير دفاعه إيهود باراك إلى قيادة المنطقة الشمالية لتقدير الأوضاع «المتوترة» على الحدود مع سوريا، الأمر الذي فهم منه المراقبون أن موضوع غزة قد انتهى بالفعل، أو هو في إطار الخطوات الأخيرة للانتهاء والتهدئة.
أما لجهة موقف إدارة أوباما، فلم يدع التصريح العلني للسفير الاميركي في تل أبيب، دان شبيرو، قبل بضعة أيام، بالقول إن «لإسرائيل الحق في الدفاع عن نفسها»، مجالاً للشك والتردد بشأن وجود ضوء أخضر من الإدارة الاميركية بتوجيه ضربة قاسية في قطاع غزة، الأمر الذي دفع المعلق العسكري في صحيفة «يديعوت أحرونوت»، اليكس فيشمان، إلى التعليق، قبل يومين، بالقول إن كلمة السر الأميركية أطلقها شابيرو، ومعناها «سنقابل أي عملية لكم في غزة بتفهّم»، مضيفاً أن حماس تجاوزت الخطوط الحمراء ودفعت القيادة السياسية في إسرائيل، عشية الانتخابات، الى الزاوية، وقدمت الجيش الإسرائيلي كما لو أنه عبارة عن عصابة من العجزة غير القادرين على الدفاع عن السكان المدنيين حيال غزة.
أيضاً، من المستبعد جداً أن يكون القرار الإسرائيلي باغتيال الجعبري معزولاً عن تقديرات تتصل بقدرة حركة حماس على الرد التناسبي على عملية الاغتيال، وخصوصاً أننا لا نتحدث عن عملية اغتيال بأسلوب أمني، يفترض أنه ضمن سقف قواعد الصراع بين الطرفين، بل من خلال عملية جوية مباشرة. أيضاً، من الواضح أن الرؤية السائدة في الوسط الإسرائيلي، التي يمكن القول إنها شكلت حجر الزاوية في بلورة قرار الاغتيال، بغض النظر عن صحتها من عدمها، هي أن حركة حماس ستكون مضطرة الى الانكباح والالتزام بضوابط عدم الذهاب بعيداً في أي ردّ عسكري في هذه المرحلة، حتى لو كانت تتعلق باغتيال قائدها العسكري، انطلاقاً من تقدير إسرائيلي، كثر الحديث عنه في المرحلة الماضية، مفاده أن الإخوان المسلمين في مصر لن يسمحوا لحماس، نتيجة أولوياتهم الداخلية والاقتصادية، بحشرهم دولياً عبر فتح جبهة مع غزة.
عند هذه النقطة، أي اغتيال الجعبري، وأيضاً استهداف البنية التحتية التنظيمية والعسكرية، بحسب رواية إسرائيل لغارات يوم أمس، يمكن إسرائيل أن توقف جولة القتال الحالية. وإذا ما انتهت هنا، من دون ردود فعل فلسطينية تكون بمستوى الاغتيال، يمكن إسرائيل أن تبني رواية النصر كما تريد، وتعيد لتل أبيب صورة الاقتدار أمام أعدائها، وترمم قدرة الردع التي تهشّمت أخيراً، ومن ثم إعادة تعويم نتنياهو داخلياً، بانتظار الانتخابات المقبلة.
أما في ما يتعلق بالحديث عن استدعاء إسرائيل الاحتياط، والاستعداد للدخول البري الى قطاع غزة، وأيضاً إعلان حالة الطوارئ في المناطق الجنوبية، فليس إلا رسائل تهويلية وردعية من شأنها، بحسب تل أبيب، أن تسهم في دفع الفلسطينيين الى عدم الرد بالمستوى الذي تجبر فيه إسرائيل على ردّ مضاد، وبالتالي الدخول في دوامة الردود والردود المضادة. أما حكاية الدخول البري، فدونها عقبات لا ترد في هذه المرحلة في حسابات إسرائيل وقيادتها السياسية والعسكرية.
هل ارتكبت إسرائيل حماقة بناءً على قراءة خاطئة للواقع المصري تحديداً، أم أنها شخّصت بدقة حدود رد الفعل المصري، والسقف الذي يمكن أن يبلغه في نجدة الشعب والمقاومة الفلسطينية في قطاع غزة؟ هذا ما ستكشفه الأيام المقبلة.
في كل الأحوال، رغم أن إسرائيل نجحت في توجيه ضربة قاسية لفصائل المقاومة في غزة، بل وأوجعت كل حركات المقاومة في لبنان وفلسطين، عبر استهداف قائد كبير كأحمد الجعبري، لا تزال المواجهة وستبقى مفتوحة.