غزّة | رغم الحديث عن إمكانية التوصل الى تهدئة بين الفصائل الفلسطينية في قطاع غزة وجيش الاحتلال الإسرائيلي، لا توحي الأمور على أرض الواقع بوقف قريب لإطلاق النار؛ فتصريحات قادة إسرائيل المتواصلة منذ يوم السبت، لا تنم عن نية صادقة لإنهاء تبادل القصف الصاروخي بين فصائل المقاومة الفلسطينية من جانب، وبين جيش الاحتلال من جانب آخر. تصريحات حملت تهديدات واضحة بالردّ الموجع وغير المسبوق، بالاضافة الى الحديث عن اغتيالات من الصف الأول للفصائل الفلسطينية، بما فيها حركة «حماس»، كانت دليلاً واضحاً على أن اسرائيل عازمة على ردع المقاومة في غزّة بكل السبل المتاحة، حتى لو استُدعي ذلك الدخول برياً الى القطاع المحاصر. منذ انتهاء الحرب الإسرائيلية على غزة في كانون الثاني 2009، توصل الجانبان إلى هدنة برعاية مصرية، لكن هذه الهدنة هشة، ويجري خرقها من فترة الى أخرى، قبل أن يعاود الطرفان الالتزام بها بعد ضغوط ووساطات مصرية ودولية.
رواية التصعيد الأخير بدأت، عندما أقدمت فصائل المقاومة على تفجير سيارة عسكرية داخل المناطق الخاضعة للاحتلال الاسرائيلي عبر إطلاق صاروخ موجّه من نوع «كورنيت». وعلى ما يبدو، فإن اسرائيل تريد أن تنتهز هذه الفرصة للقيام بعمليات «ردع» ضدّ مطلقي الصواريخ في غزّة، الذين باتوا يؤرقون حكومة الاحتلال الى جانب أكثر من مليون اسرائيلي يعيشون في مدن محاذية للقطاع.
اسرائيل لم تنتظر حتى دقيقة واحدة للردّ على تفجير العربة العسكرية، بحيث أطلقت دباباتها زخات من قذائفها باتجاه منازل المدنيين في غزّة، مخلفة 6 شهداء وعشرات الجرحى. كما أنّها شنّت عشرات الغارات الجوّية على أهداف للمقاومة وأراض خالية تُستخدم في عملية اطلاق الصواريخ على اسرائيل.
في المقابل، لم تأخذ فصائل المقاومة موقف المتفرج اتجاه القصف الاسرائيلي؛ فقامت بقصف المدن الاسرائيلية المحاذية لغزّة بعشرات الصواريخ المحلية والروسية الصنع.
التصعيد العسكري في غزّة بات أمراً اعتاد عليه الجميع، أكان في غزّة أم اسرائيل، وعادة ما يكون مرتبطاً بشكل أو بآخر بوضع سياسي أكثر من كونه تصعيداً ذا أهداف عسكرية أو أمنية. لكن الدواعي السياسية لهذا التصعيد الأخير، شابها الغموض، وربما يعود ذلك لتقلب الأوضاع السياسية في الأراضي الفلسطينية والمنطقة برمتها.
بعض المراقبين يرون أنّ التصعيد يأتي ضمن الحملة الانتخابية لرئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو وحزبه «الليكود»، والبعض الآخر يرى أن هناك أبعاداً سياسية أخرى بعضها داخلي وبعضها الآخر اقليمي، فيما يختلف آخرون حول تقييم الوضع، ويصفون ما حدث بأنّه شأن عسكري بحت لاستعادة قوة «الردع» من المقاومة، ولا أهداف سياسية من ورائه.
ويقول المحلل السياسي، استاذ العلوم السياسية بجامعة الأزهر في غزة، مخيمر أبو سعدة، إن «التصعيد في غزّة ليس أمراً جديداً؛ فغزّة تعيش على صفيح ساخن طوال الوقت، لكن الجديد هو التصريحات الاسرائيلية التي تنم عن نية مبيتة بشن عمليات واسعة النطاق في غزة». ويوضح أن «معظم القيادات تقريباً كانت قد صرحت خلال الأيام القليلة الماضية بأن اسرائيل ستنتقم، وخرجوا علينا خلال ساعات بخطط لعقاب غزة تحتاج أي دولة دولة لفترات طويلة لوضعها، ما يؤكد أن التصعيد الإسرائيلي مبيّت، حتى وان كان من بادر بخرق الهدنة هذه المرّة هو الجانب الفلسطيني».
ويضيف أن «فصائل المقاومة تشعر بحرية أكبر في استهدافها لاسرائيل الآن بعد ظفر جماعة الاخوان المسلمين بالحكم في مصر»، مؤكداً أن «العملية الأخيرة تؤكد نظريته حيث إن المقاومة هي من بادر بالضرب في محاولة منها فرض معادلات جديدة في الصراع مع اسرائيل».
وعن أسباب اسرائيل لتوسيع دائرة التصعيد هذه المرّة، يرى أبو سعدة أن «توجه الرئيس الفلسطيني محمود عباس للأمم المتحدة لمنح فلسطين دولة غير كاملة العضوية في الأمم المتحدة هو أحد أهم الاسباب التي دعت اسرائيل لضرب غزة».
ويقول أبو سعدة ان «اسرائيل كانت تهدف من وراء التصعيد اعلام العالم بأن عباس لا سلطة له على قطاع غزة، وبالتالي قطع الطريق عليه اذا ما توجه للأمم المتحدة، واعتقد أنها نجحت في ذلك وهي محقة؛ فعباس لا سلطة له على غزة». ويضيف أن «اجتماعات نتنياهو مع سفراء الدول الغربية أخيراً لم يكن لإطلاعهم على نية اسرائيل ضرب غزة، بل اعتقد أنه كان يهدف الى تنبيههم بأن عباس، الذي تنوي دولهم دعمه في الأمم المتحدة، لا يملك زمام الأمور في غزة وهي خارج نطاق سلطته».
ويوضح أن «حماس أيضاً ساعدت اسرائيل بشكل غير مباشر من خلال إرسال رسالة لمجلس الأمن مطالبة إياه بالتدخل لوقف العدوان الاسرائيلي، مما أوحى للمجتمع الدولي بأن غزّة ليست تحت سيطرة عباس، بل «حماس».
ويستبعد أبو سعدة «إمكانية شنّ حرب واسعة في غزّة على غرار عملية الرصاص المصهور»، لكنّه توقع أن «تكون هناك عمليات نوعية تتمثل باغتيالات وضربات جوّية الهدف منها إحباط جهود عباس السياسية، بالإضافة إلى ردع مطلقي الصواريخ والحدّ من قدراتهم ميدانياً».
بعض المراقبين حاولوا الربط بين ما يحدث الآن في غزّة من تصعيد بدأه الفلسطينيون بما يحدث في سوريا، في محاولة من بعض الفصائل في غزّة لرفع الضغط عن النظام السوري من خلال فتح جبهة في غزّة. هذا التوجه بدا مرفوضاً من قبل معظم الفصائل، التي صرح معظم قيادييها بأن التصعيد الأخير هو تصعيد اسرائيلي بحت بدأ قبل استهداف العربة العسكرية بأيام، وأن هدف اسرائيل من وراء هذا العدوان هو مكاسب سياسية داخلية قبل بدء الانتخابات.
وقال المتحدث الرسمي باسم حركة «حماس» في قطاع غزّة، فوزي برهوم، إن التصعيد الأخير مبرمج ومخطط له مسبقاً، موضحاً أن اسرائيل نفّذت تهديداتها بتوجيه ضربات لغزّة بشنها هذا العدوان. وأكد أنّ المقاومة الفلسطينية تقوم بدورها وواجبها وهو حماية الشعب الفلسطيني في غزّة والردّ على الاعتداءات الاسرائيلية وليس العكس. وقال إن المقاومة أصبحت قادرة على تغيير قواعد المعركة وذلك بسبب تطورها والتحام مقاتليها من خلال العمل المنظم المشترك.
بدورها، قالت ألوية الناصر صلاح الدين الجناح العسكري للجان المقاومة الشعبية المقربة من «حماس»، والتي نفذت الهجوم الأخير ضدّ العربة العسكرية الإسرائيلية بالقرب من الحدود بين غزّة وإسرائيل، أنها تقوم بالردّ على الهجمات الاسرائيلية بحق أبناء الشعب الفلسطيني. وقال المتحدث أبو مجاهد ان جماعته لن تناقش التهدئة طالما استمر العدوان الإسرائيلي على غزّة، وأنّ استمرار العدوان سيقابل بالردّ القوي غير المحدود.
ويتفق المحلل السياسي، الكاتب طلال عوكل، على أنّ التصعيد في غزّة لا يوجد له أي أبعاد اقليمية، لأن فصائل المقاومة في غزّة وجدت لتخدم أبناء الشعب الفلسطيني وليس أي طرف آخر. واستبعد أن تقوم المقاومة بفتح جبهة في غزّة للتخفيف عن سوريا، مؤكداً أن هذا الأمر بات مستحيلاً خاصة، وأن «حماس»، والتي كانت تعد أقرب فصيل لسوريا، قد أنهت علاقاتها مع النظام السوري مرّة والى الأبد. وقال عوكل إن اسرائيل من تريد أن تحقق مكاسب من وراء هذا التصعيد، وخصوصاً في موضوع الانتخابات الداخلية، بالإضافة الى تصدير الأزمات الداخلية الى الخارج أو اخفائها تحت ستار الحرب. وأوضح أن الفصائل الفلسطينية معنية بالتهدئة بشكل كبير، وخصوصاً أن حركة «حماس» تريد اعادة بناء قطاع غزّة وانشاء مشاريع كبيرة ترجع بالنفع على أبناء غزّة من خلال المنح التي حصلت عليها من قطر وتركيا وبعض دول المنطقة.
وأضاف أنّ «حماس» لن تسمح لأي طرف بقلب الطاولة لحساب أي طرف خارجي، لأن أي حرب قادمة تعني زوال حكم «حماس»، وهذا أمر غير مقبول بالنسبة للحركة التي تعمل ما بوسعها للحفاظ على التهدئة حتى حين خرقها من قبل اسرائيل.