أُحدّقُ إلى ليل المخيم، أدمعُ حيناً وأسألُ نفسي: ترى، أين أنا؟ وسط الركام والحوار مع السماء والأرض، وما معنى أن أكون موجوداً ولا أستطيع أن ألمس بيديّ حجارة هذا المكان الأسير في ظلمته، أُحدّقُ كالغائب عنه والحاضر فيه، من على سطح البيت، أمام المخيم والنهر.
هنا كعادتي في مراقبة الشمس، حين تشرق في الصباح على صوت «فيروز» وهي تغني «سنرجعُ يوماً إلى حيّنا»، وأنا أُدركُ المعنى في هذا الكلام الأصيل، ولكن الخيال يسحبني إلى ما صنع الأعداءُ فينا من برقٍ وجراح، فيأخذني خيالي إلى مشهد الحي القديم، حيّي القديم، الضائع في غبش الدمارِ، كأنهُ سيرجع يوماً إلى حضن الحياة، ليحيا في الطبيعة والأشياءِ ملء الحياة والروح. فأصحو من غفوةِ الأحلام وأنا أشتهي صورته وهي تظهر أمامي، فأمضغها كالريح حين تمرُّ فوق مسيرة النهر. يا أيُّها النهر السائر في تفاصيل التراب والحصى، عدْ كما كنت، َ من نور وسماء حبلى بالمطر، لنستيقظ من جرحنا، لنحلم من جديدٍ بأنّك فينا حاضر ههُنا، في وجع الغروب وحيرتي حين أطيرُ خارجي لأبصر في مرآة الوجودِ حُطامي، أو ألملم روحي من ألم الاعتذار لوجههِ الآخرِ، ما شكلُكَ؟ وما شكل الصمت حين يغدو في الجسد الجريحِ؟ وتمكثُ الذكرى على حافّة الشمس المتناثرة، لم أجد أحداً حولي لأسألهُ أو لأُفرغ ما يدورُ في فلك القلب من صرخة ثكلى، قرب وهج البيوت كالهياكل والقبور تحت الغيوم، أحسّهُ يتبعُني لينطق رويداً رويداً وكأنهُ ما زال حيّاً في داخلي الوجدانيّ، كالاسم لن تموت، لو طال الليلُ واكتمل، فستبقى على موعدٍ مع الفجر الجديد حتى آخر الفجر...
المكانُ كالكائن، يحفظ آثار سكّانه ولو رحلوا، إن دخلتُ في طريقٍ أعرفها عن ظهر قلبٍ كأنها تدخُل في شراييني، وأصيرُ أنا المكانُ وأنا الزمانُ، ولو صار المكانُ رماداً على عشب الذكريات القديمةِ، هكذا على جثته النائمة أمامي على سرير البحرِ، أعجزُ عن الصلاة في حضرة قبره خاشعاً ساجداً كأشجار الخريف العارية من وهجها الحقيقيّ.
والمكانُ كالحرب العابرة. كما شاء شبح الحرب أن يزرع الموت في حقل التاريخ، ليخلي الفضاء من أجنحتي ويربّي مفترسيه. المكانُ عطرٌ لا يزولُ من الحنين إلى رائحةِ المكان الأول، إن عبرتَ أشمُّ فيكَ رائحتي... أغراضي وأوراقي التي أكلتها النارُ، وأشمُّ فيكَ ما تبقى منكَ، وما تبقى منّي فيكَ، لن نفترق إلا لنلتقي على أرضِنا الواحدة.
*رئيس تحرير موقع الكرمل