الناس في فلسطين مشغولون بقطف الزيتون وجمعه ورصّه وعصر الزيت. يرفدهم ناشطون جاؤوا من بقاع الأرض لحمايتهم خلال قطافهم من شراسة المستوطنين وجرف الأشجار. أما الرئيس الفلسطيني محمود عباس، فمشغول عنهم بتصريحات قرّر فيها أن يتصرّف بملكية أراضي فلسطين التاريخية. هكذا، قرّر أبو مازن أنه لا يريد أن يعود إلى صفد بعد اليوم. هو فقط يريد أن يراها رؤية العين. الحق بالمشاهدة لا الحق بالعودة. «يصطفل محمود عباس»، فالعالم «الحر» اليوم يبشرنا بالحرية الشخصية، هو حرّ إذا/ ولو كان رئيساً لما يسمى السلطة الفلسطينية. لكن الخمسة ملايين فلسطينية وفلسطيني ممن هم لاجئون في مخيمات البؤس ومنافي الفراغ، هم أيضاً حرّات وأحرار بالعودة والرؤية واللمس والشمّ وأكل التراب حتى إذا ما أرادوا. هم أحرار بالبقاء... لا بل بالفناء هناك.
تتنوّع ردود الفعل على ما قاله محمود عبّاس بصفته رئيس السلطة الفلسطينية، بين لامبالٍ وشاجب... ومؤيّد باستحياء.
نسأل الرجل الخمسيني ما رأيه في كلام أبو مازن فيقول لي: «ما تسأليني أنا، إسألي أمّي اللي عرفت فلسطين وعاشت فيها». هو ممتعض ممّا حصل، لكنّه غير «مصدوم». «ما قدّم شي جديد، يقول لي، مسلسل التنازلات مكمّل، بس المفردات كانت مفاجأة». وكأن الأمر نفسه قد حصل مع لؤي، الذي يقول إنه أيضاً لم يُفاجأ بما سمعه. نتناقش محاولين استيعاب «غياب الصدمة» عند الناس، فيما يقول لي إن معظم أصحابه وزملائه في العمل لم يعلموا حتى بما جرى. «كأنو أصلاً هالرجل ما بقى يمثّلهم. وأصلاً ما في ثقة». نحاول أن نفهم ما يجري ولمَ لم تدفع هذه الكلمات الناس للنزول إلى الشارع، بدلاً من ذلك الاعتصام الذي شاركت فيه قلّة نهار الجمعة المنصرم لرفض التخلّي عن حق العودة. «يمكن لإنو التنازلات والمفاوضات بلّشت من زمان. فالصدمة مرقت ونحنا صغار. هلّق اللي عم بيصير تحصيل حاصل»، يقول بمرارة.
لكن الجميع يعترف بأن الصادم في القصة هو بالتأكيد اللغة المستعملة. يبدو كأن المفاوضين والقياديين كانوا يحاولون في ما مضى «شلبنة» النقاشات والقرارات، وحتى التنازلات كانت تُموّه بكلمات فضفاضة بريئة الشكل لئيمة المضمون. أمّا الآن، فقد كشّر أبو مازن عن أنياب الحقيقة وقال الأمور بوقاحتها، وكأنه لا يخاف رقيباً أو شعباً أو ثورة. إنه حقاً لا يخافها. «ما بيهموا رأي الناس، مش فارقة معو حدا... شي بيمخول المخ». فالوضع الفلسطيني في حالة من اللامبالاة من كثرة التنازلات... والتعب. «الناس بطّل عندها القوة والحماسة. صعب نتوقّع منها تثور أو تعمل أي إشي».
مذ بدأت المفاوضات بين حماس والإسرائيليين في مصر، يقول أحد الشباب، خاف الناس وراحوا يتساءلون عن مصيرهم، وبخاصة أهل المخيمات الذين هم أكثر المتضرّرين من هذه المفاوضات؛ إذ إن حقوقهم هي أول ما يُتخلّى عنه، فيما تزداد صعوبة العيش عليهم في الدول المضيفة. ويبدو أن الأولويات بدأت بالتلاشي شيئاً فشيئاً. فبعدما كانت فلسطين كاملة هي المطلب، بالإضافة إلى حق العودة وأحلام بانتهاء العذاب والتهجير وسنين الطواف، رسّخت سياسات القياديين المتعاقبين تنازلات وتخلّيات ونسياناً. فعلى مستوى ما، تكون الأولوية الآن لتوفير المسكن والعمل ولقمة العيش. ولا نقول إن هذه مطالب غير مهمة، لكن سياسات السلطة بالإضافة إلى الدول المضيفة هي التي دفعت الوضع الفلسطيني إلى هذه المرحلة. وتأتي محاولات تبرير خطاب أبو مازن، من جهة حركة فتح وجمهورها ضعيفة ضائعة، تحاول التخفيف من وطأة الكلمات بحجة أن الناس أساؤوا فهم «الرئيس» أو أنه «تحت ضغوط كبيرة»، يضحّي الآن بما يضحّيه من أجل الاعتراف بفلسطين في الأمم المتحدة. وتضحك محدّثتي إذ تقول: «كيف الواحد بيشتغل للاعتراف بدولة تخلى بالأصل عنها؟».
يردّ الكثير من الشابات والشبان على ما قاله أبو مازن بالتشكيك بشرعية سلطته. ويأتي هذا التشكيك من حيث رفض الأكثرية الساحقة للتساؤل حتى عن معنى حق العودة. من طولكرم، يكتب حافظ على صفحته الإلكترونية، وكأنه يردّ على سياسة المفاوضات والتنازلات: «لو أن ناجي العلي حيّ اليوم، لرسم بالمتفجرات بدلاً من الحبر»... هذا هو المطروح اليوم. الشعب في جهة، والسلطة في جهة أخرى، كما تعوّدنا. فالكثيرون يرون أن ما قاله أبو مازن يعبّر عن «بؤس السلطة وفقدانها لأي قدرة على التغيير». لكن ما هو المطروح مقابل التنازل؟ هل من صوت يرفع عالياً حتى يطغى على صوت «بائع الأرض» أو «محجّب» النساء؟
كان محمود درويش يقول «إنّك الأخضر. لا يشبهك الزيتون، لا يمشي إليك/ الظلّ، لا تتّسع الأرض لرايات صباحك». («نشيد إلى الأخضر»)... هذا ما يُقال لأهل فلسطين، من ابتلاهم الدهر باحتلال ومنفى... ورئيس، تصلح له أبيات أحمد مطر (وقد كتبها لمن سبقه) «هوّن عليك... لا عليك/ لم يضع شيء».. لا عليه إذاً، لأنه لا يمثّل أحداً، ولأن الناس سئموا تواطؤه عليهم ومن بيع الأرض مرّات ومرّات ومرّات. والأهم من هذا كلّه أنه، حتى ولو عاد أهله إليها، فإنه لن يشهد بعد اليوم قطاف الزيتون في صفد. فالخونة مكانهم ليس بين العائدين.



في هذه اللحظة بالذات، وفيما وصل الخطاب الرسمي للسلطة إلى مستوى غير مسبوق من الانهزامية والاستسلام والتخلّي عن أراضي فلسطين التاريخية وحقوق اللاجئين في الشتات، يبدو السؤال مبرراً: هل يبدأ تحرّك ما للفلسطينيين من دول الشتات، ويكون التخلّي عن المفاوضات المباشرة منها وغير المباشرة والتراجع عن كل التنازلات؟ أتكون المطلب الأساسي للمواطنين الفلسطينيين، وهم من يذوق كل يوم مع خبزه ومائه مرارة طعم هذه السياسات؟ الكثيرون يؤكدون ذلك ولو أنهم يشيرون إلى صعوبة الأمر مع عدم استتباب الأوضاع الأمنية والسياسية في العالم العربي