دمشق | رسالة قاسية تلقّتها عاصمة الأمويين صباحاً. حي المزة 86 السكني تحت مرمى قذائف الهاون. أربع قذائف متتالية رجّح أنها أُطلقت من بساتين المزة أو كفرسوسة، لتستيقظ دمشق من جديد على الرعب والدم والنار، وسط الترويج لشائعات استهداف القصر الجمهوري بقذائف الهاون وأخبار متناقلة عن إصابة مبنى رئاسة مجلس الوزراء بقذيفة أيضاً. الهدف، بحسب التنسيقيات، مقرّ جمعية البستان الخيرية التي يملكها رجل الأعمال السوري المعروف رامي مخلوف. القذيفة أخطأت الهدف، ربما عن قصد، فالجميع يعرف أن مقر الجمعية انتقل منذ شهور إلى منطقة أُخرى. وعليه، فقد أدى القصف إلى سقوط ثلاثة مدنيين وإصابة آخرين. وطبعاً، لا استثناءات للأطفال من الموت في هذا الصباح المدرسي.
حريق هائل ولّدته القذائف، بينما انبرى البعض إلى تحليل ما جرى على أنه وشاية من داخل الحي ساعدت في تحديد موقع دون سواه، ليكون هدف القصف. وريثما يتم التأكّد من الأمر، فقد انبرى بعض سكان المنطقة إلى تحميل المسؤولية للجيش والقوى الأمنية الذين لا يضعون حدّاً بشكل نهائي للتمرد المسلّح.
دخول المعارضة المسلحة على خط الهجوم والمبادرة إلى القصف المدفعي وسط العاصمة خلق بلبلة في الشارع السوري وأحرج المدافعين عن النظام، على الرغم من ردّ وحدات من الجيش على مصدر القذائف وقيام القوى الأمنية بعمليات دهم في منطقة بساتين المزة والفيلات الشرقية، ولا سيما في ضوء تحذيرات بعض الأوساط الإعلامية من القيام بأعمال بناء وإنشاء قواعد حديدية في البساتين خلال الفترة الماضية، إنما من دون اتخاذ التدابير المناسبة.
يأتي ذلك بعد ليلٍ دامٍ من الانفجارات شهدته دمشق؛ فعاصفة سيارات «سابا» المفخخة، التي زارت حي المزة 86 وساحة باب توما، زارت حي الورود ذا الأكثرية السكانية المؤيدة للنظام أيضاً، ضاربة من خلال ثلاثة انفجارات متتالية أكثر ساحاته ازدحاماً، ما أدّى إلى مقتل 30 مدنياً وإصابة 50 من الغافلين الماضين إلى أمورهم، ليتبع ذلك ليلاً انفجار ضخم آخر في قسم شرطة منطقة القدم هزّ أركان العاصمة السورية.
كلّ خطوة في سوريا قد تقودك إلى الموت. فانفجار ساحة عروس الجبل في المزة 86 منذ أيام لم يكن الأول في المنطقة ومحيطها، إذ سبقه تفجير على طريق المزة وقرب ملعب الجلاء، فضلاً عن إطلاق الرصاص الدائم في حي الشيخ سعد.
ورغم ما يتردد بين السوريين أن عمليات التفجير «النوعية» التي تحقق إصابات مباشرة قد أصبح لها تسعيرتها المرتفعة في المطابخ الاستخبارية لبعض الدول المجاورة، إلا أن التسعيرة التي ينالها الانتحاري مكافأة على عمليته «الاستشهادية» هي أكثر ما يثير شجون السوريين وسخريتهم أيضاً.
سيارة «سابا» مفخخة أيضاً، سببت مقداراً هائلاً من الخراب في الحيّ. مظاهر مؤلمة للأشلاء ولضحايا محترقين بالكامل، إذ إن الانفجار ولّد حريقاً ضخماً استدعى حضور سيارات إطفاء وإسعاف. الكثير من التساؤلات؛ ألا يعرف الجميع أن المنطقة مستهدفة؟ كيف سمح حاجز المزة 86 العسكري الذي يستوقف السيارات للتفتيش بعبور السيارة المفخخة؟
أما نخبة المعارضين فقد صدمت السوريين بمواقف روّجت لما جرى على مبدأ أن «قتل الشبيحة هو قتل لوحوش لا صلة حقيقية لها بعالم البشر»، وأن ذلك حصل بسبب النظام، بحسب أحد أشهر كتّاب القصة القصيرة في البلاد، فيما راجت أحاديث لبعض المؤيدين حول البعد الطائفي لاستهداف بعض الأحياء، والذي يهدف إلى إفراغ دمشق من أهل الساحل القاطنين فيها منذ عقود.
بدورها، التنسيقيات استخدمت الورقة الطائفية ذاتها للشماتة بالمناطق الحاضنة لـ«الشبيحة»، والتي أطلقت عليها اسم «مستوطنات». ورغم إصرار مهندسي التفجير ومنفّذيه على أنهم استهدفوا مركزاً أمنياً وضباطاً في الجيش خلال بيان نشرته التنسيقيات، لكن الدلائل تشير إلى أن المركز الأمني الهدف غير موجود في المنطقة كلها، وتمت الاستعاضة عنه بإصابة أطفال يحملون حقائبهم المدرسية ومدنيين عائدين من وظائفهم في ساعة ذروة الازدحام.
كلّ سيارة متوقفة هي مرشّحة للانفجار بالنسبة إلى المارين، بعد عدة إشاعات تناقلها الناس عن وجود عدة سيارات مفخخة تجول في شوارع العاصمة. وكل كيس غريب أو حقيبة تستدعي من المارّة التبليغ، فيما الهرولة هي الصفة الأبرز لطريقة مشي سكان المزة تحديداً.
رامي، مقيمٌ في دمشق، يقود سيارته باتجاه المزة. يتجاوز السرعة القصوى، متجاهلاً كاميرات المراقبة. إنه يفضّل الموت في حادث سيارة على الموت في انفجار. يتلفّت حوله متأمّلاً مساء دمشق الخاوي بعد الانفجار ثم يتساءل: «يبدو أننا نرفض التأقلم مع وضع البلاد الدموي. أليس كذلك؟».
لا إجابة، بل صمت مطبق على ليل دمشق، فيما تتحدث الطالبة الجامعية حنين عن تفجير كشك للبيع قرب منزلها، ما أدى إلى إصابة صاحبه الذي أضحى بلا ساقَين. يعلّق صديقها أمجد بسخرية قائلاً: «متل هالعملية النضيفة... تسعيرتها 100 ألف دولار».
لدمشق في اليومين الأخيرين وجه أشدّ ألماً. الجيش السوري يتابع عملياته في داريا وبساتين المزة. الأصوات العنيفة توحي بأن المعارك القائمة هي الأشرس على الإطلاق، حيث لا ينام سكان الأوتوستراد والفيلات الشرقية بسبب اقتراب أصوات الاشتباكات وإطلاق النار المتبادل.
يأتي ذلك بالتزامن مع ما يشاع عن سيطرة عناصر الجيش الحر على وسط بلدة المعضمية، إثر اعتقال القوى الأمنية 15 امرأة من «حرائر الثورة» بتهمة مشاركة المعارضة المسلحة في بعض أعمالها ومحاولة تسهيل عمل أفرادها. مصادر محلية أكدت لـ«الأخبار» أن المنطقة الآن غارقة في الخطف والخطف المضاد.
يصل الإعلامي سومر إلى لقاء أصدقائه على أوتوستراد المزة بعد دقائق من انفجار ساحة عروس الجبل. يبدو مذهولاً، فالفارق الزمني بين عبوره الساحة والانفجار لا يتجاوز دقائق. آخر ما يتذكره وجوه عدّة أطفال من تلاميذ المرحلة الابتدائية يحملون حقائبهم المدرسية ويتجهون نحو الساحة، ليضيعوا خلال لحظات في الغبار والنار والدخان.