دمشق | اللهفة في عيونهم. انتظار أحبائهم والخوف المرافق. يقفون بانتظار وصول أبنائهم المعتقلين الخارجين من السجن. بالتزامن مع إصدار الرئيس بشار الأسد مرسوم عفو عام عن الجرائم المرتكبة قبل تاريخ 23/10/ 2012، شهد مركز نازحي الحجر الأسود في مدرسة المعتمد بن عباد بمخيّم اليرموك، مشهداً لا يُنسى يصوّر خروج سبعة معتقلين من السجون السورية. شهقات نسائهم وأمهاتهم ودموع الفرح على الوجوه المتعبة من ألم النزوح والفقر والفقد. البؤس المخيّم على وجوه الأطفال اختفى لتحلّ مكانه نظرات الفرح بعودة الآباء الغائبين. عناق يتخلّله بكاء صدمة لدى نساء أُخريات انتظرن غائبين لم يعودوا. لم يستطع النقاب أن يحجب دموع الخيبة في عيني إحدى النساء المنتظرات. صرخت باكية «وين محمد؟». ما من إجابة فهو ليس من ضمن المفرج عنهم، بينما طفلها يمسك بطرف عباءتها باكياً.
هُنا، لا أهمية لتنهيدات الأمهات. ما من أحد يسمع. تصرخ إحداهن «أين ابني الوحيد؟ هل يخرج قبل العيد؟». يعدها عضو إحدى المنظمات الأهلية بمتابعة ملفّه، متمنّياً خروجه قبل العيد. تتوسّل وتبكي وتؤكد أن لا علاقة لابنها بأعمال العنف التي جرت في المنطقة، «من البيت إلى العمل. لم يتمّ الثامنة عشرة بعد»، تقول المرأة وتسأل «هل يأخذونه للخدمة في الجيش مع أنه وحيد؟ ألا يزال حيّاً؟». وتختنق بنحيب متواصل.
وتؤكّد مصادر لـ«الأخبار» أنّ معظم هؤلاء متورطون في أحداث شغب ومساعدة الإرهابيين، وتمّ القبض على أغلبهم بعد هربهم للاختباء في المدرسة بين عائلاتهم، إنما قلة منهم أبرياء فعلاً، وتمّ اعتقالهم إثر تشابه أسماء أو اشتباه بهم لتثبت براءة بعضهم لاحقاً. وتلفت المصادر إلى أنّ هذه الخطوة تأتي في ظلّ محاولات الدولة لاحتواء جميع المواطنين وإعادتهم إلى مواطَنتهم وعائلاتهم إثر وساطات بعض الفعاليات الأهلية، أملاً في أن يصبحوا مواطنين صالحين.
وحيث الإنسانية تتجاوز الأخطاء، تبحث امرأة أخرى بين الوجوه عن ابنيها. أحدهما في الخامسة عشرة. تقول «كلاهما عاملان. تدمّر منزلنا. وأتينا هاربين إلى هُنا ليتمّ القبض عليهما». لا تذكر تهمتيهما رغم الإلحاح في السؤال. أما أم أحمد فهي توزّع الحلوى ابتهاجاً بعودة الزوج الذي تحدث إلى «الأخبار» عن حرمانه من زوجته وأطفاله الثلاثة، دون أن ينزل طفله عن ذراعيه لحظة واحدة. ما التهمة؟ لا يجيب إلا بالقول «أنا لم أفعل شيئاً». وبإصراره على أنّه لم يرتكب أي خطأ لا يمكن للمرء ألا يبارك بالسلامة متناولاً من الزوجة الحلوى، وهي عبارة عن قطعة سكاكر من النوع الذي يتناوله الأطفال. تقول امرأة واقفة تراقب الآخرين عن بعد «تم الإفراج عن ابني منذ فترة بعد اعتقاله بتهمة العمل مع الجيش الحر، إلا أنّه خرج بريئاً بعد خمسة عشر يوماً». لا تدخل المرأة في تفاصيل خروج ابنها من تهمة كهذه، إنما تكتفي بحمد الله، بينما تشرح عن الأوضاع السيئة التي يعانيها النازحون.
المرأة من سكان حمص، وأصولها من اللاذقية. خسرت منزلها هُناك، وهربت إلى منزل ابنتها في دمشق بعد مقتل زوجها. وفي دمشق عانت ذات المأساة، إثر خطف صهرها وتدمير منزل ابنتها لتجد نفسها ترعى عدداً من الأطفال أكبرهم في الحادية عشرة وأصغرهم عمره سنة. لا أوراق ثبوتية تدلّ على شخصية الأطفال، وأمهم بعد فقدها مع المنزل في الحجر الأسود. تروي «لا أحد سيشعر بصعوبة أن يفقد الإنسان منزله إن لم يجرب هذه اللوعة. أنا غريبة هُنا وما من معيل كي آخذ هؤلاء الأطفال وأستأجر منزلاً يسترنا». أحد الرجال يبكي محتضناً شقيقه الخارج لتوّه من السجن. يصعب التمييز بين مظهرهما، فالأخ الخارج من السجن حال ملابسه أفضل من المتواجد خارجه. يقول وقد اختلطت فرحته بحزنه «خرج أخي. الحمد لله. إنما بقي أخي الآخر في السجن». ويسأل كغريق متعلّق بقشة «هل يخرج قريباً؟». لا تهمة أيضاً، فالجميع يصرّون على براءة أبنائهم. والسؤال «لماذا هو دون سواه إذاً؟». هو سؤال محرّم أمام كثافة المشاعر الإنسانية المتدفقة ألماً. ملابس تمّ غسلها ونشرها في باحة المدرسة. يلعب الأطفال تحتها، فيما الكبار يسألون عمّن بقي في السجن، وأحوالهم، وإمكان خروجهم قريباً.
أحد القيّمين على الاهتمام بالنازحين ضمن المدرسة من مؤسسة «جفرا»، ذكر إلى «الأخبار» أنّ المساعدات تصل عن طريق الهيئة الخيرية التي تقدّم وجبة يومية، فيما تأتي فرق تطوعية بالحاجات الضرورية للنازحين. ويوضح أن من بقي في المدرسة هم العشرات فقط، بعدما غادر غالبية النازحين إلى منازلهم. «بعض هؤلاء تضرّرت منازلهم، وبعضهم يخشى العودة بسبب خوفه من فقدان الأمان».
ويبقى هذا حال مركز واحد من عدة مراكز، فيها من النكبات ما لا يعدّ ولا يحصى يعاني فيها السوريون ذلّ النزوح، ونكبات الحرب القائمة في البلاد.