حلب | بعد المحاولة الرابعة للسيطرة على الجامع الأموي في حلب، تمكن مسلحو «الجيش الحر» من اقتحامه أول من أمس. لكن الخسائر في الجامع كانت فادحة بعدما اندلعت فيه النيران، ملتهمةً جزءاً منه، وسط عجز السلطات عن إخماد النيران بسبب القناصين الذين يستهدفون محيط الجامع وعناصر الإطفاء، وفقاً لما أكده مصدر في فوج إطفاء حلب. وفي محاولة لطرد المسلحين من الجامع، الذي يعتبر من أقدم وأعرق جوامع العالم، شنت وحدة من الجيش أمس هجوماً. وقال مصدر رسمي لـ«الأخبار» إن «جريمة حرق الجامع تضاف إلى سلسلة الجرائم التي قام بها مسلحو العصابات بتوجيه من أسيادهم في الخارج، كحرق وتدمير معامل القطاعين الخاص والعام، وأسواق المدينة التاريخية ومركز البحوث العلمية ودور العبادة من جوامع وكنائس، وبوابة قلعة حلب وغيرها الكثير».
وأكد المصدر أن «الجيش العربي السوري مستمر في ملاحقة فلول الإرهابيين لإعادة الأمن وإعادة الحياة وبناء ما دمرته يد الحقد المأجورة العابثة، ومهما بلغت التضحيات»، لافتاً إلى «استسلام 12 مسلحاً داخل الجامع لقوات الأمن التي طهرته من المسلحين».
في المقابل، أصدر «لواء التوحيد» التابع لـ«الجيش الحر» بياناً اتهم فيه الجيش السوري بحرق الجامع. وجاء في البيان أن قيادة لواء التوحيد «أوعزت للكتائب المرابطة على مقربة من المسجد الكبير بعدم التقدم كي لا يمتلك النظام مبرراً لتدمير المسجد». وأضاف البيان «إلا أنه (النظام) قرر الانسحاب منه في الساعة الرابعة عصراً، تاركاً وراءه ما يدل على بربريته وهمجيته، إذ أضرم النيران في جنبات المسجد الطاهر».
وقد بثّ ناشطون معارضون شريطاً مصوراً لمقاتلين من اللواء المذكور داخل الجامع الأموي. وظهر أحدهم يتحدث بالعامية قائلاً «بعد مافتنا ع الجامع وحررناه من العصابات الأسدية قاموا بحرق الجامع وهذا هو الجامع يحترق، تكبير ... الله أكبر».
يشار إلى أن آخر محاولات المسلحين لاقتحام الجامع كانت يوم الأربعاء الماضي. واستمرت أربع ساعات وتم خلالها تفجير وإحداث كوات في السور الجنوبي للجامع للتسلل إلى داخله، حيث لحقت بالمسجد أضرار متوسطة يومها. إلا أن المسلحين انسحبوا من المسجد بعد عدة ساعات ليعيدوا المحاولة أول من أمس.
توأم دمشق
يطلق الحلبيون على الجامع الأموي اسم الجامع الكبير، وجامع سيدنا زكريا. بناه الخليفة الأموي سليمان بن عبد الملك، بين عامي 716 و718 للميلاد، ليضاهي به أموي دمشق الذي بناه شقيقه الوليد بن عبد الملك. وسبق أن تعرض للحرق المتعمد ثلاث مرات في التاريخ، على يد نقفور فوكاس قيصر الروم أثناء احتلاله حاضرة سيف الدولة الحمداني، وفي عهد نور الدين زنكي، ثم على يد هولاكو.
تم ترميمه وتوسيعه في عهد نور الدين زنكي، بينما تم الانتهاء من آخر ترميم له في 17 آذار 2006 مع بدء الاحتفالية بحلب عاصمة للثقافة الإسلامية. حريق أول من أمس أصاب المحراب، مذكراً بحريق الأقصى الذي طال محراب صلاح الدين، الذي هو في الأصل محراب أموي حلب المنقول في عهد صلاح الدين الأيوبي إلى بيت المقدس.
الحدث، وهو الثاني بأهميته بعد كارثة إحراق الأسواق التجارية التاريخية، هز مشاعر الحلبيين بقوة. فهو الأثر الأقدم بعد القلعة التي دمر المسلحون بابها الخارجي بقذيفة صاروخية، وقد نالت منه النيران، وفيه مقام النبي زكريا، الذي ينتشر اسمه في حلب أكثر من أي مدينة سورية أخرى. وأقيم على أملاك كنيسة كما شقيقه أموي دمشق الذي يحوي مقام النبي يحيى، وأقيم على كنيسة هو الآخر.
زينة علبي، اعتبرت أن «حرق الجامع هو أمر طبيعي نتيجة الهجمات اللامسؤولة على المدينة من قبل الجيش الحر، وهو انتقام من حلب التي اتخذت موقفاً عقلانياً ووطنياً، فهي أيدت الإصلاح». وأضافت «ذكريات طفولة وشباب مرت في خيالي. كان الجامع الكبير محطة لنا في كل زيارة تسوق في المدينة القديمة، التي فجعونا بأسواقها التي لا مثيل لها في العالم، ولذلك توقعنا أن يحرق أحفاد هولاكو الجامع لأنهم يركزون على تدمير الآثار».
في المقابل، يرفض عبد القادر المارعي اتهام «الجيش الحر». ويقول «الدولة تستخف بعقولنا عندما تتهم بحرق الجامع الجيش الحر والثورة، وهي ثورة إسلامية مؤمنة». ويضيف «من المضحك اتهامها بحرق جامع، ولولا دخول الجيش وارتكاب المحرمات داخل الجامع لما فكر الجيش الحر بتحريره منهم».
وتساءل «هل قام الجيش الحر بتحرير أي منشأة مدنية أو دينية وحرقها قبل الجامع الأموي؟ طبعاً لم يفعل. بل كان يحررها ويسلمها فوراً للمدنيين لمتابعة خدمة المواطنين الحلبيين الذين تحرمهم الدولة من الخدمات عقوبة لهم لأن حلب انضمت للثورة».
أما أحمد، وهو مهندس رفض كشف اسمه كاملاً، فتساءل عن سبب تأخر السلطات في الحسم، محملاً إياها المسؤولية في التقصير عن حماية المنشآت الحيوية في المدينة. وقال «هل تريد القيادة أن تصبح حلب رماداً حتى يتم التحرك وتوجيه قوات كافية كما حصل في دمشق؟». وأضاف «لماذا تم القضاء على العصابات في حي الميدان وأحياء دمشق خلال أيام قليلة، وفي حلب مر شهران وحلب تحترق وقلوبنا تحترق عليها». وشدد على أنه «يجب تحييد دور العبادة عن الصراع المسلح، وهذا على عاتق الدولة لأنها مسؤولة، أما الجيش الحر فهم عصابات فوضوية، وبينهم جهلة لا يعون ما يفعلون».
من جهته، يقول مهند سعود، وهو صناعي شاب تملك أسرته معملاً صغيراً في ضواحي حلب ومكتباً تجارياً لتسويق منتجاتها يطل على الجامع، «دفعت حلب ثمناً باهظاً لحرب فرضت عليها، كله فداء الوطن، وما نريده وقف حرق حلب، لأن ما يجري لا يخدم إلا أعداء سوريا والطامعين فيها».
أما محمد نور الميهني، وهو طالب دراسات عليا ومهتم بالتراث، فاعتبر أنّ «عمليّة حرق المسجد الأموي الكبير في حلب، عدا عن أنها تدنيس لموقع ديني، قد حققت هدفين في آن معاً ضمن خطة الفوضى الخلاقة». وأوضح أن الهدف الأوّل «هو التخريب وطمس المعالم الأثرية لحلب، ما سيؤثّر سلباً في المستقبل على السياحة». والثاني «السرقة. فمن المعروف أنّ مكتبة هذا المسجد تحتوي على نفائس من المخطوطات والكتب التي لا نجدها حتّى في مكتبات آيا صوفيا وأحمد الثالث، وهي أشهر مكتبات مدينة اسطنبول التركيّة».