اليرموك | يقال والله أعلم، إنه في مثل هذه الأيام، يا سادة يا كرام، ذهب مواطن واسمه يقظان لينام. وحالما وضع رأسه على الوسادة غرق في لجّة الأحلام، هارباً من واقعه بسرعة صاروخ «سام». وفي جنة الخيال هناك طفق يحلق، وكالعصفور فوق الغصون بدأ يزقزق. هكذا، رأى يقظان نفسه يستيقظ ذات صباح، على غير عادته «مرتاح»! شرب قهوته مسترخياً، وصوت فيروز جعله «مستهنياً». وبينما هو يضع الساق على الساق، تذكّر أن عليه أن ينهي في إحدى الدوائر الحكومية بعض الأوراق. فقام إلى لقاء الموظفين غير مشتاق، وحالما خرج من باب داره، استقبله بالابتسام جاره. وقبل أن يرد عليه السلام، سبقه جاره وبدأ الكلام، قال «لقد أرسلت البلدية ورشة للتصليح، وآلياتها في الحي منذ الفجر تصيح.
فقد جاؤوا لتزفيت الطرقات، وإخلائها من الحفر والمطبّات، وإزالة ما تجمع على زواياها من النفايات، ونشر ما يختص بها من الحاويات، وسوف تنار ليلاً بالجديد من المصابيح، ويقال، قبل القيام بكل هذا، رئيس البلدية في نومه لن يستريح. فاستغرب يقظان وأخذ يهزّ برأسه، ثم مضى مسرعاً وقدماه تسابقان نفسه، حتى وصل إلى الدائرة الحكومية، التي بشأنه هي معنية، وقبل أن يدخل إليها هيأ في جيبه مختلف الفئات النقدية، وتوجّه نحو الموظف وهمّ بإعطائه الأوراق وفي طياتها «الإكرامية»، فهب الموظف قائلاً: معاذ الله... لقد كان هذا في الأيام المضيّة، تفضل يا سيدي بالجلوس على أحد هذي المقاعد مرتاحاً هنيّا، لقد وضعناها خصيصاً لراحتكم مطيّة، وأعطني الأوراق ونحن سنقوم بالبقية، وخلال دقائق سيكون طلبكم من دائرتنا مقضيّا! وبعدها بقليل، خرج يقظان فرحاً من الدائرة الحكومية، فمسألته فيها حُلت بسرعة خيالية، فقرر الذهاب إلى السوق، ليصرف فيه ما ربحه من الوقت وما خصصه للإكرامّية، وحين وصل إليه وجد الناس شاخصة بالأبصار، فالمفتش ورجاله جالوا في السوق لرصد الأسعار، وقد أمسكوا أحد الباعة يتلاعب بها كالسمسار، فجرّوه من أذنيه وفي أرجاء السوق كالمسلوب يُدار، ويتوعدون من يأخذ فوق التسعيرة بالمعاملة مثله ثم إلى السجن يُسار، فذهل يقظان، وهو لا يزال في عالم الأحلام، لما رأى كيف انقلبت في ذلك اليوم جميع الأحوال... وفي تلك اللحظة شطح به الخيال، ورأى الناس قد حلقوا رؤوسهم وأصبحوا صُلعان، وارتدوا لوناً واحداً من الألوان، ولم يعد في المجتمع ما يسمى الطبقات، وتوحّد معها حتى ارتفاع البنايات، وانتشرت في الطرقات طاولات مستديرة، ولكل مواطن دورٌ ووقتٌ له في النقاش يديره، كما اختفت في ما بينهم الأحزاب، وتساوى الجميع بالألقاب، وحتى المسؤولون خلعوا النظارة السوداء، وتركوا سيارة «المرسيدس» البيضاء، فحولوها مسكناً لمن تشرد من الأنام، وساروا بين الناس على الأقدام، ولم يعد هنالك عبدٌ و لا أمير، فجميعهم في «المواطنة» يتشاركون ذات الحصير.
وفي الختام . . يا سادة يا كرام . . يقال إن أفلاطون العالي المقام، صاحب المدينة الفاضلة، والآراء المذهلة، وصل إليه خبر يقظان، فأمر باعتقال هذا المواطن «السهتان»، وبمحاكمته بالتمادي بالذهان، وسخر منه أمام الشهود والأعيان، فأصبح عبرة لكل إنسان.
فرحم الله المواطن يقظان، الذي كان جرمه الوحيد أنه رأى مجرد منام.