دمشق | «لا وجود لمكان آمن في سوريا». هذه العبارة يتناقلها السوريون في أحاديثهم ولقاءاتهم اليومية، فيما يتكرر سيناريو حرب المدن والشوارع، في معظم المدن والقرى السورية، التي لا تزال تعيش منذ بداية الأحداث لعبة الكرّ والفرّ بين كتائب الجيش الحرّ وعناصره المسلحين، ووحدات الجيش السوري النظامية والأجهزة الأمنية. أيام قليلة تمضي على المواجهات، وتعلن وسائل الإعلام السورية الرسمية «تطهير الأجهزة المختصة مناطق المواجهات المسلحة من فلول العصابات الإرهابية، وسحق جميع عناصرها وقادتها وعقولها المنظمة والمدبرة»، كما حدث في منطقة الحجر الأسود، القابون، داريا، المعضمية، التقدم، جديدة عرطوز، دوما، مخيم اليرموك والعديد من المناطق المحيطة بالعاصمة دمشق. كما هي الحال أيضاً مع بقية المدن والمحافظات السورية المختلفة. لكن ما إن تمضي أيام قليلة على حال الهدوء النسبي، حتى تحاول كتائب «الجيش الحر» وعناصره السيطرة على المنطقة، ولو جزئياً، لتشتعل المواجهات المسلحة في هذه المناطق مجدداً، محولةً من بقي من سكانها إلى متاريس بشرية يحتمي خلفها طرفا الصراع غير مكترثين بمصير المدنيين العزل. ربما كان هذا ما يبرر حركة النزوح الكبيرة التي شهدتها مجمل هذه المناطق في الأشهر الثلاثة الماضية، هرباً من رصاص القناصة، أو العيارات النارية المختلفة والقذائف المدفعية، إلى أماكن بعيدة تعيش هدوءً نسبياً من المؤكد أنه لن يستمر طويلاً.
أبو مصطفى، عامل البناء الذي يهيم على وجهه اليوم باحثاً عن مكان آمن يؤويه مع زوجته وأبنائه الخمسة، يروي بعضاً من معاناته قائلاً: «رحلة نزوحي مع عائلتي بدأت من منطقة الحجر الأسود إلى مخيم اليرموك، ومنه إلى جرمانا، وبعد دخول الجيش السوري وتطهير الحجر الأسود، عدت لأجد أن منزلي قد دمر وأُحرق بالكامل». وأضاف: «لو كنت أملك المال الكافي اليوم، لغادرت سوريا على الفور، إلى أي مكان في العالم». ويقول: «استمعت أخيراً إلى تصريحات وزير الخارجية السورية وليد المعلم، التي طالب فيها جميع اللاجئين السوريين بالعودة إلى أرض الوطن، بعد أن وعدهم بتوفير الأمن والأمان لهم». ويضيف: «لا أعرف أين يقيم سيادة الوزير المعلم، لكني على يقين تام بأن مكان إقامته بعيد جداً عن مناطق المواجهات المسلحة، ولم يقض ليلة واحدة تحت القصف والرصاص» في الأشهر الثلاثة الماضية.
صور اللاجئين السوريين تصدّرت مجمل المحطات الفضائية والإعلام العالمي، لكن لم تكترث أي من هذه المحطات الفضائية بمشاهد آلاف السوريين الذين يقفون ساعات طويلة أمام دوائر الهجرة والجوازات، للحصول على جواز سفر بعد أن حسموا أمرهم بمغادرة وطنهم، باحثين عن بلاد أكثر أمناً.
في منطقة البرامكة تنتظم طوابير طويلة جداً اتخذت شكل صفوف متوازية من آلاف المراجعين على أبواب دائرة الهجرة والجوازات. أحد موظفي الدائرة المكلف تسليم جوازات السفر لأصحابها، لم يتردد في القول: «لو اصطفت هذه الجموع بشكل طولي منتظم، لربما تجاوز طولها 1500 متر». ويضيف: «طاقة عمل مديريتنا لا تتعدى إنجاز وطباعة وتسليم 500 جواز سفر يومياً، رُفعت إلى 750، ما زاد علينا حجم الضغط والجهد»، لافتاً إلى أن «هناك مئات المراجعين يحضرون منذ ساعات الصباح الباكر، ولا يصلون إلى داخل المديرية من شدة الازدحام اليومي».
ورغبةً منهم في تنظيم العمل وتخفيف الضغط والازدحام عن مكاتب مديريتهم، يعمل سامي ورفاقه اليوم، على توزيع أوراق صغيرة على المراجعين، تحمل تاريخاً محدداً لعودتهم ربما بعد عدة أيام، في محاولة منهم لضبط عدد المراجعين يومياً، بما يتناسب واستطاعة عمل مديريتهم.
معظم الواقفين في طابور الانتظار هم من الشباب في مقتبل العمر. يلخّص لنا نضال (29 عاماً) معاناة وهموم معظم الشباب الذين يصطفون في انتظار دورهم بقوله: «كنت أعمل محاسباً في إحدى شركات بيع الأجهزة المنزلية العالمية. سرّحت من عملي بعدما أغلقت الشركة مكاتبها في سوريا نتيجة الأحداث. بعدها بقيت نحو عام كامل بلا عمل. الآن ضاقت بي السبل ولم يعد أمامي سوى السفر من دون هدف محدد».
وفيما ينتظر نضال اليوم فيزا من أحد أقاربه في فرنسا أو السويد أو السعودية، يقول: «ما أريده فقط هو الخروج من هذه الجحيم الذي نعيشه. أصبحت عالة على عائلتي، فضلاً عن الظروف الأمنية الصعبة جداً. أعتقد أن الأوضاع تحتاج إلى أكثر من 20 عاماً لتعود إلى ما كانت عليه قبل بداية الأحداث، هذا إن توقف العنف والقتل والقتال اليوم». أبو سامح (39 عاماً)، لا يختلف في رأيه كثيراً عن نضال، فالمهم الآن هو تجديد جواز سفره، والحصول على آخر لزوجته وأبنائه الثلاثة، ومن ثم تبدأ رحلة البحث والاستجداء للحصول على فيزا للسفر إلى أي مكان في العالم. يؤكد أبو سامح أن «القصة لا تنتهي بالحصول على جوازات السفر، فغالبية السفارات مغلقة منذ الأشهر الأولى للأحداث، ومن يرد تقديم أوراقه، فعليه السفر إلى لبنان أو الأردن، ولك أن تتخيل معاناة عائلة كاملة عليها السفر ليوم واحد إلى بلد آخر، من أجل ساعة واحدة في إحدى السفارات». أبو سامح أنفق معظم ما يملكه من مال تقريباً، في سفره المتكرر إلى لبنان لتقديم أوراق الهجرة أو السفر إلى السفارات الأجنبية هناك، ما جعله يتعاقد مع سائقي سيارات الأجرة العاملة على خط بيروت ــ دمشق الذين وجدوا مصدر رزق إضافياً، كما هي الحال مع سيمون. الأخير لا يتردد بالقول: «معظم زبائني من سوريا». ويضيف: «منهم من يثق بي من أجل متابعة سير أوراقه في السفارات، وأنا أقوم بهذه الخدمة مقابل أجر مادي معقول».
لا يلتفت النظام السوري، اليوم، إلى خطر هجرة الآلاف من خيرة شبابه وأبنائه وطاقاته الواعدة خارج البلاد، باحثين عن فرصة عمل تحميهم من الفقر والعوز، وعن مكان آمن يحميهم من جحيم الحرب. عن ذلك يقول الباحث الاجتماعي، محمد نور الدين: «إنها خسارة الأكبر لسوريا. من الصعب، بل من المستحيل، تعويضها. من الممكن أن نعيد بناء كل شيء تهدم في الحرب، لكن كيف نستطيع تعويض الطاقات الشابة التي هاجرت من البلاد، والتي ستهاجر في الأيام المقبلة؟».